وقد أخذني الإعجاب بالمقدمة التي كتبها الشاعر لديوانه، حتى هممت أن أجعلها مختار هذه الكلمة، وأدع القصيدة، وفيها يصف الشعر، ومنزلته من الكلام، وخصائصه من الفنون، وما الذي يجعل بعضه جيدًا يُطرب، وبعضه رديئًا يُهمَل، يقول: " حاول عبد القاهر الجرجاني في كتابيه: (أسرار البلاغة)، و (دلائل الإعجاز)، أن يشرح ما بهر نفسه من ضروب البلاغة في بعض ما ساق من الشواهد فأخفق وأخفق، وطالما نظرت مبتسمًا إليه وهو يكِدّ ويكدح، ويعلو ويسفل، ويحاول الوصول إلى مواطن السحر فلا يستطيع، ويتلمس اللفظ لشرح ما يجول بنفسه فلا يوفق، والغيظ ينفخ أوداجه، والألم تسمعه في نبرات لفظه، يرسل الصيحة إثر الصيحة، كأنما يدعو إلى اصطياد ظبي نافر، أو إلى التوثب إلى أجنحة طائر، ثم هو بعد طول الصياح، وشدة الإلحاح، لم يعمل شيئًا، ولم يترك في كف القارئ شيئًا! ".
وضرب أمثلة من الشعر الجيد لا يُدرَك مأتى جودته، ولا يُعرف السيبل إلى وصف جماله، إلا أن يُسمع، ويذاق، فيعرف الخبير النقَّاد أنه من الضرب النفيس المضنون به على غير أهله، ومن غير أهله من وصفهم الجارم بقوله: " وقد يخلط من لا بصر له بالشعر بين تأثير الحال التي قيل فيها الشعر وتأثير الشعر نفسه، وكثيرًا ما نال الشاعر تصفيق الجماهير واستحسانهم لأنه يتجه إلى عاطفة فيهم سريعة الالتهاب، سهلة الإثارة، وكثيرًا ما يلجأ بعض الشعراء في موضوع بعيد عن عاطفة العامة إلى الاستطراد إلى ذكر ما يثير نفوسهم استجداء لصيحات الاستحسان وطلب الإعادة. وهذا دجل أدبي نعوذ بالله منه، وهذا إفساد للفن ممن يريدون الالتصاق بالفن، شأن هؤلاء شأن صغار المصورين (يقصد الرسامين) الذين يعمدون إلى دريهمات العامة بالإكثار من الألوان الزاهية البراقة، وإن ضاع الانسجام، وقُتل الفن الرفيع قتلا! ".
وإذا كان الشعر الجيد يستعصي على وصف روحه، والإحاطة بكنهه، ومعرفة المادة الفعالة التي جعلت له هذه المنزلة من القيمة، وهذه الأثر من الإطراب، وهذا النوع من الإمتاع، في رأي علي الجارم، وهو من كبار رجال التربية والتعليم - فهل تظن أنني قادر على أن أصف لك القصيدة المختارة في هذه الكلمة، وأعرفك ما فيها مما يكون في الشعر الأصيل، والكلام الجليل؟! ولكني أقول: إنها قصيدة جديرة بأن تُنشد، وأن تُختار، وأن تُحفظ، وأن تُعد في قصائد المحدَثين البليغة في المديح النبوي، وإن لم يكن لها شهرة: (ولد الهدى) أو (سلوا قلبي)، والشهرة على كل حال حظوظ مقسومة، بلا أسباب معلومة!
محمد رسول الله
لعلي الجارم
تحية ناء من شذى المسك أطيب
ومن قطرات المزن أصفى وأعذب
وتبريح أشواق إذا ما تنفست
يكاد لها فحم الدجى يتلهب
وقلبٌ يضيق الصدر عن نبضاته
فيخفق غيظًا بالجناح ويَضرِب
تلفَّتَ في الأضلاع حيران يائسًا
وأنَّ كما أنَّ السجين المعذَّب
تُعاوده الذكرى فتنكأ جرحه
ويا رُبَّ جرح حار فيه المطبِّب
ويخدعه طيف الخيال إذا سرى
فيبعث آمال الشجيِّ ويذهب
ومن أبصر الأيام خلف قناعها
رأى الدهر يلهو، والأمانيَّ تكذب
عجائب أحداث تليها عجائب
وصبري على تلك العجائب أعجب!
ولولا حياة الوهم أودى بأهله
زمان بأشواك الحقائق مخصِب
تبسمْ إذا ما قطَّب الدهر وجهه
وصفقْ له في دَوره حين يلعب
يموت الفتى من قبل أن يعرف الفتى
من الأمر ما يأتي وما يتجنَّب
وسيان ما يَدريه والشَّعر فاحم
أثِيثٌ، وما يدريه والشعر أشيب
وقالوا: حياة المرء درس، فقهقهت
صروف الليالي والقضاء المغيَّب
إذا ما جهلتَ النفسَ وهي قريبة
فأيُّ المعاني بعد نفسك أقرب؟
* * *
حنانًا لقلبي! كيف طاحت به المنى
وعز على الأيام ما يتطلَّب
يغازله في مطرح النَّسر مأرب
ويختله في مسبح الحوت مأرب
يكاد إذا مر الحجازُ بذكره
وجيرتُه - من صدره يتوثب
بلاد بها الرحمن ألقى ضياءه
على لابتيها والعوالم غيهب
تكاد إذا مرت بها الشمس غُدوة
حياءً بأهداب السحاب تَنقَّب
يجلِّلها قدس من الله سابغ
وينفَحها نشر من الخلد طيب
إذا نسَب الناسُ البلادَ رأيتَها
إلى جنة الفروس تُعزَى وتُنسَب
وإن نَضَبت أنهارها فبحسبها
من الدين نهر للهدى ليس ينضُب
إذا ما جرى في الأرض فالجدب مُخصِب
وإن هو جافى الأرضَ فالخصب مُجدِب
¥