وانقطع بلال عن الأذان , وانقطع الأذان الذي ارتبط بحياة المصطفى عن الناس , وما زال بلال يعاني ألم الوجد, وشدّة الفراق, ها هي حجراته , ذاك مصلاه, هذا ممشاه, يمشي يمينا فإذا بسكَّة رآه فيها حبيبه فتبسم له, يمشي شمالا فإذا طريق آخاه فيه إلى المسجد, يا لها من ذكرى أليمة نقشت في الذاكرة تُهَيِّجُها الشواخص والآثار, لقد كان معه يوم كانت حرارة الشمس تلهب جلده والسياط تحفر جسده , لقد كان يسمعه وهو ينادي: أحَدٌ أحد , لقد سمع قرع نعليه في الجنة, هاهو يقدم المدينة فيراه في شوق إلى لقياه , ثم هو يردفه على راحلته يوم فتح مكة وفاء وتواضعاً وتقديرا .. أنى له أن ينسى ذلك, أو يغيب عن ناظر فؤاده ذلك الحب.
كل المعالم من حولي تذكرني*********** فقْد الحبيب ولا شيء يواسيني
لقد كان هذا لسان حاله حين خرج من المدينة مع بعوث الشام ليستقر فيها, لا رغبة عنها وإنما
كما قيل:
وما عن داركم أبغي بديلا *********** ولكن غاب في الدار الحبيب
وهكذا بدأت فتوح المسلمين في الاتساع سنة بعد سنة ونصرًا بعد نصر, ويدخل عمر بن الخطاب فاتحًا بيت المقدس ومعه جمع من الصحابة من بينهم بلال.
هاهو بيت المقدس تحت حكم الإسلام , هاهو بيت المقدس حيث صلى رسول الله صل1 بالأنبياء فمن يذكرنا رسول الله صل1؟!! وتنطلق الكلمات من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رض1 مليئة بالأدب والاستحثاث وهو يتذكر الموقف موقف بلال قبل ستة أعوام مضت: يا بلال ألا تؤذِّن لنا؟
يا لَله .. ستة أعوام وبلال لم يؤذّن .. ستة أعوام منذ وفاة رسول الله .. وهاهو اليوم يطلب منه أمير المؤمنين أن يؤذن حيث صلى رسول الله صل1 بالأنبياء إنه يوم الوفاء , إنه يوم المحبة والإخاء حيث يتذكر بلال تلك الأيام الخوالي, يا أمير المؤمنين: ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله صل1 و لكن سأطيعك إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها.
ويصعد بلال ويضع يديه على أذنيه وتنطلق الكلمات لتصل الماضي بالمضارع وتنتقل بظرف المكان إلى ظرف الزمان .. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. أشهد ألا إله إلا الله .. أشهد ألا إله إلا الله .. أشهد أن محمدا رسول الله ... أشهد أن محمدا ... وتتقاصر الكلمات عن الخروج ويضج المشهد بالبكاء ويتذكر الصحابة رضوان الله عليهم تلك الأيام, وكأني بهم يلتفتون , أين رسول الله؟ أين رسول الله؟ ولا تسل حينها عن بلال ... لقد حُق له ألا يؤذّن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويرجع بلال رضي الله عنه إلى الشام ويبقى ما شاء الله أن يبقى, جسده في الشام وفؤاده متعلق بحبيبه وإمامه , نام بلال ولم يكن يدري أنه على موعد مع أحب الناس إليه, ولم يفجأه إلا رؤيا رسول الله صل1 في المنام يدعوه ويستزيره .. ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟
انتبه وانتفض , قام معتذرا ليقول بلسان الحال: وأنى لقلبي الضعيف وجسدي النحيل أن يدخل المدينة فلا يرى نورها, وأن يدخل المسجد فلا يرى إمامه ومعلمه!!
لكنه أسرج دابته وركب راحلته واتجه صوب المدينة , تلك المدينة التي جعلت من بلال أمين هذه الأمة على صلاتها, يالها من أيام طويلة من الشام إلى المدينة, الخواطر تمر والذكريات تلوح والحقيقة مرة مؤلمة, فيا ترى من بقي من الصحابة؟ وكيف ستكون زيارتي لحبيبي رسول الله , وهل المسجد هو المسجد؟ ومن هو المؤذن؟ أفكار ازدحمت في ذهن بلال لم يجد لها جوابا سوى الجدّ في السيْر والإسراع لإجابة نداء الحبيب.
المسجد يلوح له عن بعد , يقترب خطوة خطوة .. ومع كل خطوة يخطوها يهوي قلب بلال
ويجيء وقت الظهيرة , والمسجد خال من الناس و بلال أمام قبر حبيبه صل1 يبكي وينتحب ويمرغ وجهه وكأن رسول الله صل1 دفن لتوّه , سلم عليه وصلى, وقف طويلا يتذكر ثلاثة وعشرين سنة, بحلوها ومرها, وشدتها ورخائها وقف يتذكر طويلا حين قال حبيبه صل1 عنه: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي و لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه أبط بلال).
لقد كانت لحظات هدوء وسكون لم يقطعها سوى صوت أقدام وينظر من بعيد وإذا بشابين قد امتلأت وجوههما بالنور والوضاءه, يتأمل فيهما , يا لَله الوجه وجه رسول الله , إنهما سِبطَا رسول الله وريْحانتاه, إنهما الحسن والحسين ابنا فاطمة بنت حبيبي وإمامي ورسولي .. الله أكبر
كل المعالم ذكرتني وصلكم **************يا خير خلق الله يا خير البشر
قبَّلهما, ضمّهما , شمهما , مرة أخرى , وثانية , وثالثة , إنه يشم ريح رسول الله, إنه يضم ابن رسول الله , إنه ... إنا نشتهي أن نسمع أذانك, هكذا سقطت عليه كلماتهما كالصاعقة, فهما يشتهيان سماع ذلك الصوت الذي ما سمعاه مذ كانا فتيانا, ولم يكن له بد من إجابة طلبهما فهما سبطا حبيبه صل1.
وفي هدأة الظهيرة وسكونها , لم يرع الناس سوى ذلك الصوت التليد يشق سكونها , الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر .. وترتج المدينة .. أشهد ألا إله إلا الله .. وتزداد رجتها وضجيجها .. أشهد أن محمدا رسول الله .. أبعث رسول الله؟ أبعث رسول الله؟ هكذا خرج النساء من خدورهن باكيات يرددن .. أبعث رسول الله؟ أبعث رسول الله؟
ياله من صوت نديّ, يذكر بالنبيّ وارتجت المدينة بالبكاء فما رُؤي يوم أكثر باكياً بعد وفاة رسول الله صل1 من ذلك اليوم.
ويمضي بلال على ما كان عليه من حب ووفاء وطاعة لرسول الله, ويأتيه مرض الموت وتبكي زوجته فيعزيها في نفسه ويقول: (غدًا نلقى الأحبة محمدا وصحبه) نعم .. هناك يلقاهم حيث سمع رسول الله صل1 قرع نعليه , نعم .. هناك يلقاهم حيث يسقيه حبيبه بيده شربة لا يظمأ بعدها أبدا. نعم .. هناك يلقاهم في يوم لا ينفع التطاول بالنسب أما كلمة التوحيد فتتطاول برافعها ليلقى الأحبة محمدا وصحبه.
فإذا ذكرت بلالاً .. فاذكره حين تهيج الذكريات (أ. هـ)
¥