والصحيح أنَّ النحو نشأ في العراق، صدر الإسلام، نشأة عربية على مقتضى الفطرة.
ثم تدرَّج به التطوُّر تمشيًا مع سنة الترقِّي، حتى كملت أبوابه، غير مقتبسٍ من لغة أخرى، لا في نشأته، ولا في تدرُّجه.
فكما تنبت الشجرة في أرضها، كذلك نبت علم النحو عند العرب.
وما زعمه بعض المستشرقين، إنما هو افتراض، والولوع بالانتقاص للعرب.
[هل علم النحو جاء لإرادة " الفهم " أم جاء لمحاربة " اللحن "؟]
يعود السبب في وضع النحو إلى انتشار اللحن على الألسنة، حين اختلط العرب بغيرهم من الشعوب والأجناس غير العربية.
وهناك عدة روايات تدلُّ على أنَّ الخطأ في الإعراب كان أحد العوامل التي أدَّت إلى نشأة النحو.
قال أبو الطيِّب اللغوي: واعلم أنَّ أوَّل من اختلَّ من كلام العرب، وأحوج للتعلُّم، الإعرابُ؛ لأنَّ اللحن ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -.
فقد روينا أنَّ رجلاً لَحَنَ بحضرته، فقال: " أرشدوا أخاكم فقد ضلَّ "
قال أبو بكرٍ – رضي الله عنه -: " لأنْ أقرأ فأسقط أحبُّ إليَّ مِن أن أقرأ فألحن ".
وقدم أعرابيٌّ في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال: مَن يُقرئني شيئًا مما أنزل الله على محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فأقرأه رجلٌ سورةَ براءةٍ، فقال: " أنَّ اللهَ بريءٌ مِن المشركينَ ورسولِهِ " بالجرِّ لكلمة " رسولِهِ "، فقال الأعرابيُّ: أوَ قد برئَ اللهُ مِن رسولِهِ؟ إن يكن اللهُ برئَ من رسولِه فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر – رضي الله عنه – مقالة الأعرابيِّ، فدعاه فقال: يا أعرابي، أتبرأُ من رسول الله؟
فقال: يا أمير المؤمنين، قدمتُ المدينة ولا علمَ لي بالقرآن، فسألتُ مَن يُقرئني؟، فأقرأني هذا سورةَ براءةٍ، فقال: " أنَّ اللهَ بريءٌ مِنَ المشْرِكينَ ورسُولِهِ "، فقلت: أوَ قد برئَ اللهُ مِن رسولِهِ؟ إن يكن اللهُ برئَ من رسولِه فأنا أبرأ منه، فقال له عمرُ ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أميرَ المؤمنينَ؟ فقال: {أنَّ اللهَ بريءٌ مِنَ المشْرِكينَ ورسُولُهُ}، فقال الأعرابيُّ: وأنا – والله – أبرأ ممَّا برئَ اللهُ ورسولُهُ منه، فأمر عمرُ أن لا يُقرئَ القرآنَ إلاَّ عالمٌ باللغة.
وقال ياقوت: " مرَّ عمرُ بن الخطَّاب – رضي الله عنه – على قوم يُسيئون الرميَ، فقرعهم، فقالوا: إنَّا قوم " متعلِّمين "، فأعرض مغضبًا فقال: " والله لخطؤكم في لسانكم أشدُّ عليَّ مِن خطئكم في رميكم ".
وقال ابن جنِّي في " الخصائص ":
ورووا أيضًا أنَّ أحد ولاة عمر – رضي الله عنه – كتب إليه كتابًا لحَنَ فيه، فكتب إليه عمرُ – رضي الله عنه – أن قنِّع كاتبَك سوطًا.
وقال ابنُ قتيبة: سمع أعرابيٌّ مؤذِّنًا يقول: أشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولَ الله، بنصب " رسولَ "، فقال: ويحك، يفعل ماذا؟.
ورُويَ أنَّ ابنةَ أبي الأسود الدؤلي قعدتْ معه في يومٍ قائظٍ شديدِ الحرِّ، فأرادتْ التعجُّبَ مِن شِدَّةِ الحرِّ، فقالتْ: " ما أشدُّ الحرِّ "، فقال أبوها: " القيظ، وهو ما نحن فيه يا بُنيَّة "، جوابًا عن كلامِها؛ لأنه استفهام، فتحيَّرتْ، وظهر له خطؤها، فعلم أبو الأسود أنها أرادت التعجُّب، فقال لها: قولي يا بُنيَّة، " ما أشدَّ الحرَّ ".
وواضح من هذه الرواية، أنها تربط نشأة النحو باللحن في اللغة المنطوقة التي كانت عبارة عن حوارٍ بين أبي الأسود وابنته.
[من هم أوائل النحاة؟]
يُعدُّ أبو الأسود الدؤلي إمام النحاة ورائدهم، لذلك أجمعت المصادر على أنَّ النحو نشأ بالبصرة، وبها اتَّسع ونما وتكامل، وصار علمًا له حدوده وموضوعاته وقضاياه.
ويقال إنَّ النحو العربيَّ سُمِّي نحوًا، مِن قول الإمام عليٍّ – رضي الله عنه – لأبي الأسود: " ما أحسن هذا النحوَ الذي نحوتَ ".
وقال عاصم بن أبي النَّجود: " أول مَن وضع العربية أبو الأسود الدؤلي، جاء إلى زياد بالبصرة، فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وتغيَّرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلامًا يقيمون به كلامهم، قال: لا.
فجاء رجل إلى زياد، فقال " أصلح الله الأميرَ، " تُوفِّيَ أبانا وترك بنون "، فقال زياد " تُوفِّيَ أبانا وترك بنون! "، ادعُ لي أبا الأسود، فقال: ضع للناس الذي كنتُ نهيتُك أن تضع لهم.
ختامًا، هناك بعض المراجع التي تناولت هذا الموضوع، مثل:
" نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة "، محمد الطنطاوي
" أصول النحو العربي "، الدكتور محمد ياقوت
" أبو الأسود الدؤلي ونشأة النحو العربي "، الدكتور فتحي عبد الفتَّاح
" من تاريخ النحو "، سعيد الأفغاني
دمتَ بودٍّ، مع عاطر التحايا