[الألغاز النحوية]
ـ[أبو ذكرى]ــــــــ[18 - 08 - 2004, 02:51 م]ـ
[الألغاز النحوية]
تعد الألغاز وما شابهها كالأحاجي والأعاجيب من أقدم الأشكال الأدبية التقليدية التي عرفها الإنسان، ويجزم بعض الدارسين أنها الطريق الأولى إلى المعرفة.
وتعد الألغاز رياضة ذهنية تستفز الفكر بما تتضمنه من مفاجآت ومسائل ظاهرها عجيب محير خارج عما أصل من قواعد ومخالف لها، تجعل المتلقي يفكر في حلها فإذا توصل إلى المعنى الخفي زال الإشكال وبطل العجب، وهي تعتمد على التورية، إلا أن محورها حفظ الغريب والمشترك، وتعد الألغاز وظيفة تربوية وتعليمية وترفيهية للمتلقين.
و يتفاجأ المتلقي النحوي باللغز إذ يعرض بطريقة توهم أن فيه خطأ نحويا كرفع المنصوب والمجرور، ونصب المرفوع والمجرور، وجر المرفوع والمنصوب، ونحو ذلك من تداخل حركات الإعراب أو حروفه أو التباس بعضها ببعض، ثم لا يلبث المتلقي أن يعرف الأسرار الإعرابية التي جعلت الكلمة تأخذ وجها إعرابيا مخالفا لقناعاته أول وهلة.
فالألغاز النحوية تتضمن إشكالات مقصودة لأغراض وأسرار لطيفة، والملغز في رسمه للغز يحيرك، وتوقن أنه قد أخطأ في ضبط أواخر الكلمات، والكلمات المتجاورة لا معنى يتضح لها، فإذا مضيت معه في توجيهه فهمت المعنى وأيقنت بصحة اللفظ ورحت ترسم الشاهد رسما غير الرسم الذي قد قدم لك وإن كان رسم اللفظين واحدا، وهنا موضع البراعة.
وهي تشحذ الذهن وتعوده استجلاء المواقع الإعرابية للكلمات والجمل والعبارات عن طريق النظر في معنى الكلمة وربطها بضمائمها، كما أنه يسلي الخاطر، ويظن القارئ العجل انه يتسلى ويلهو فيضحك أو يعرض ساخرا، لكنه إذا تعمق في معنى اللغز أفاد علما وثقافة لاستناد الحل إلى قواعد كثيرة ما تكون نادرة حتى للمتخصصين، وأدرك براعة صاحبه.
وتقوي المران والملكة ويحظى المتمكن في اللغة منها بمتاع غير قليل، فبينما تراك لاهيا تتسلى بحل لغز إذا بك تغوص في دقائق من صميم اللغويات بنحوها وصرفها، وتجد نفسك بين جد ولعب وتسلية وتعليم وترويح وتدقيق، فهناك ألغاز في الإعراب دفن الغموض صوابها فكانت ظواهرها فاسدة قبيحة وبواطنها جيدة صحيحة.
إن أبيات الألغاز النحوية ابتدعت في عصر من العصور، وأصبحت فنا، وتجد كثيرا منها يعاجز به العلماء بعضهم بعضا ويتلقفها عنهم المتعلمون، وكانت مطارحة هذه الأبيات في المجالس ظاهرة أدبية شاعت في المائة الثانية واستمرت إلى المائة الخامسة، وتدل الظاهرة على توسع العلوم العربية وشواهدها والولوع بتنمية الملكات وشحذ المرانة فيها حتى كان من آثارها أن ذاعت هذه الرياضة.
ومن أشهر الذين ألفوا في الألغاز النحوية: الحريري إذ ألف كتابا أسماه ألغاز الحريري، والفارقي في كتابه الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب، والزمخشري الذي ألف كتابا سماه الأحاجي النحوية، وابن هشام في كتابه الألغاز النحوية.
ونعرض فيما يأتي نماذجا من الألغاز النحوية كي يقف القارئ الكريم على سعة لغتنا العربية وعظم ثرائها.
ومهما يكن من شيء فإن هذه الألغاز تؤكد القواعد النحوية في ذهن المتلقي، وتجعله يسترجعها من جديد؛ لأنه يحاول استجلاء الموقعية الإعرابية للكلمة رابطا إياها بالسياق، وما يشتمل عليه من قرائن حالية ومعنوية ولفظية.
* كساني أبي عثمان ثوبانُ للوغى ... وهل ينفع الثوب الرقيق لذي الحربِ
فأنت عندما تتلقى هذا البيت تندهش وتتساءل لمَ قال: " أبي عثمان " وهو فاعل كسا؟، ولماذا رفع " ثوبان "؟.
وسرعان ما تزول الدهشة عندما تعرف أن (الكاف) للتشبيه، و (ساني) اسم فاعل وهو المستقي للماء، و (ثوبان) اسم رجل وهو مبتدأ والخبر (للوغى) والتقدير ثوبان ُ كساني أبي عثمان في الضعف وقلة الغنى.
* قال الوشاةُ أبى وصالَكَ من به ... كنتَ الضنينَ وخانَكَ البرحاء
فعند تلقيك لهذا البيت يتبادر إلى ذهنك سؤال مهم وهو لماذا جرت " البرحاء " بالكسرة وهي تستحق الرفع كونها فاعلا للفعل " خان "؟.
توجيهه أنه أراد خان كالبرحاء، فالكاف للتشبيه، والوجه أن تتصل بالبرحاء، وإنما جاز وصلها بالفعل (خان) لأنه في موضع اللغز.
* إن أبي جعفرٌَُُ على فرساً ... لو أنّ عبدُ الإلهِ ما ركبا
¥