فأنث الفعل: (تستبح)، رغم أن فاعله: (بنو اللقيطة)، جمع مذكر سالم، والسر في ذلك، كما يقول الشيخ محيي الدين، رحمه الله، في "منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب" ص205، أن الجمع هنا، وإن كان جمع مذكر سالم، إلا أنه أشبه جمع التكسير من جهة تغير بنية المفرد فيه، فالمفرد: "ابن" و الجمع: "بنون"، والخطب في جمع التكسير أهون، فالتأنيث بنية الجماعة، والتذكير بنية الجمع كما تقدم.
والمذهب الثاني: مذهب أبي علي الفارسي، رحمه الله، وخلاصته أنه يجوز الوجهان في جميع هذه الأنواع إلا نوعا واحدا وهو: جمع المذكر السالم، فإنه لا يجوز في الفعل الذي يسند إليه إلا التذكير، ويعلق الشيخ محيي الدين، رحمه الله، فيقول:
وأنت لو تأملت كلام الناظم، أي ابن مالك رحمه الله، لوجدته بحسب ظاهره مطابقا لهذا المذهب، لأنه لم يستثن إلا السالم من جمع المذكر.
والمذهب الثالث: مذهب جمهور البصريين، وخلاصته أنه يجوز الوجهان في أربعة أنواع وهي: اسم الجمع، واسم الجنس الجمعي، وجمع التكسير بنوعيه، المذكر والمؤنث، وأما جمع المذكر السالم فلا يجوز في فعله إلا التذكير، وأما جمع المؤنث السالم فلا يجوز في فعله إلا التأنيث.
بتصرف من "منحة الجليل"، (2/ 72، 73).
يقول ابن هشام رحمه الله:
ومن هذا الباب أيضا قولهم: نعمت المرأة هند، و: نعم المرأة هند، فالتأنيث على مقتضى الظاهر، والتذكير، (على معنى الجنس)، لأن المراد بالمرأة الجنس، لا واحدة بعينها، مدحوا الجنس عموما، ثم خصوا من أرادوا مدحه، فكأن هندا قد مدحت مرة بعد أخرى:
فمدحت ابتداء، باعتبار دخولها تحت الجنس الممدوح، ثم مدحت بعينها، وهذا ما يعرف بـ: "الخصوص بعد العموم"، كقوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها)، فخص جبريل صلى الله عليه وسلم بالذكر بعد ذكر الملائكة وهو داخل في عموم الملائكة، والله أعلم.
وكذا الحال في "بئس"، فلك أن تقول: بئست المرأة حمالة الحطب، على مقتضى الظاهر، وبئس المرأة حمالة الحطب، على إرادة الجنس، ثم التخصيص بعد العموم.
والثانية: أن يكون الفاعل ظاهرا، حقيقي التأنيث، مفصولا بغير "إلا" عن فعله، كقولك: قام اليوم هند، و: قامت اليوم هند، والثاني أرجح من الأول، وكذا قولك: حضرت القاضي امرأة، و: حضر القاضي امرأة، والأول أرجح، كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "شرح قطر الندى"، ص185.
ومما جاء على الوجه المرجوح:
قول الشاعر:
إن امرأ غره منكن واحدة ******* بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
إذ الأفصح في الاختيار أن يقو: غرته منكن واحدة، لأن الفاعل: "واحدة": ظاهر حقيقي التأنيث، مفصول عن فعله بغير "إلا"، إذ فصل بالجار والمجرور "منكن".
وكذا قوله:
لقد ولد الأخيطل أم سوء
فجاء الفعل "ولد"، أيضا، على الوجه المرجوح، فالراجح: تأنيث الفعل لأن الفاصل بينه وبين الفاعل المؤنث الحقيقي، غير "إلا"، كما تقدم.
انظر "أوضح المسالك، شرح ألفية ابن مالك"، لابن هشام، رحمه الله، ص143.
والمبرد يخص ذلك بالشعر فلا يجيزه في الاختيار.
وأما التأنيث المرجوح ففي مسألة واحدة وهي:
أن يكون الفاعل مفصولا بـ "إلا"، كقولك: ما قام إلا هند، فالتذكير أرجح باعتبار المعنى، لأن التقدير: ما قام أحد إلا هند، فالفاعل في الحقيقة مذكر اللفظ وهو: "أحد"، وما بعد "إلا" بدل منه.
يقول الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله:
هذا البدل، أي بدل ما بعد "إلا"، مما قبلها، من نوع بدل البعض من الكل، ألا ترى أن هندا فرد مما يصلح له لفظ أحد، وأنت لو تدبرت لم تجد مع هند ضميرا يعود إلى أحد، كما أنك تجد أن "أحدا"، المبدل منه، قد انتفى عنه القيام، في حين أن القيام ثابت لهند، البدل، لأن ما بعد إلا يخالف ما قبلها في النفي والإثبات، ونحن نعلم أن بدل البعض من الكل يجب أن يضاف إلى ضمير يعود إلى المبدل منه، كقولك: قرأت الكتاب نصفه فالهاء في "نصفه" البدل تعود على "الكتاب" المبدل منه، كما يجب أن يكون مثل المبدل منه في ثبوت الحكم أو نفيه، ففي قولك: قرأت الكتاب نصفه حكم القراءة ثابت للمبدل منه: الكتاب والبدل: نصفه، فيسأل هنا عن السر في مخالفة البدل في الأمرين في صورتنا هذه، والجواب عن ذلك أن تقول: إن هذه الصورة من الكلام لم يلتزم فيها أحد هذين الأمرين، لأن الاستثناء المتصل من طبعه يفيد أن المستثنى جزء من المستثنى منه، إذ لولا ذلك لما صح الاستثناء، فهو إذن في غير حاجة إلى الضمير، فإن ما يفيده الضمير قد أفاده الكلام، فضلا عن أن طبيعة الاستثناء نفي الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى فلا يمكن هنا اتحاد حكمي البدل والمبدل منه، لأن هذا يعني انهيار صورة الاستثناء من أساسها، إذ كيف يستثنى فرع من أصل مع اتحاد حكمهما؟
بتصرف من "سبيل الهدى بتحقيق شرح قطر الندى"، ص185.
وبعض النحاة يوجب التذكير، ويجوز التأنيث باعتبار اللفظ كقوله:
ما برئت من ريبة وذم ******* في حربنا إلا بنات العم
فمع إبقاء الاستثناء المفرغ: يكون تقدير الكلام: ما برئ أحد من ريبة وذم في حربنا إلا بنات العم.
فالاستثناء هنا، كما تقدم، "مفرغ"، فيكون سياق الكلام بعد حذف "ما" و "أداة الاستثناء": برئت من ريبة وذم في حربنا بنات العم، والله أعلم.
يقول ابن هشام رحمه الله:
والدليل على جوازه في النثر قراءة بعضهم: (إن كانت إلا صيحة واحدة)، برفع (صيحة)، فـ "كان" في هذه القراءة: تامة، فيكون المعنى: إن وجدت إلا صيحة واحدة، فأنث الفعل رغم فصله عن الفاعل بـ "إلا".
وكذا قراءة جماعة من السلف: (فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم)، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله، وبجعل حرف المضارعة التاء المثناة من فوق، فأنث الفعل "ترى"، رغم فصله عن الفاعل بـ "إلا".
وزعم الأخفش أن التأنيث لا يجوز إلا في الشعر، وهو محجوج بالقراءتين السابقتين، فكأن الأخفش ممن يوجب التذكير ويمنع التأنيث في الاختيار، والله أعلم.
¥