وهذا التحقيق النفيس يدل على أن الإعراب فرع المعنى، إذ راعى الشيخ، رحمه الله، الإعراب الذي يزيد المعنى قوة، فالاتصاف بالحلم على الدوام مقدم على الاتصاف به في موقف دون آخر، وإن كان الحليم في ذلك الموقف حليما فيما دونه من باب أولى، والله أعلم.
وقد أشار الشيخ، رحمه الله، في ثنايا هذا التحقيق، إلى قاعدة مقررة عند جماهير النحاة وهي: أن
الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال.
ولذا استدرك الشيخ محيي الدين، رحمه الله، على ابن عقيل، رحمه الله، في شرحه لما ذهب إلى أن جملة "تسعى" حال من "حية" في قوله تعالى: (فإذا هي حية تسعى)، فقد جوز بعض النحاة تعدد الأخبار، وعليه تكون "حية" خبر أول لـ "هي"، وجملة "تسعى" خبر ثان، وقال آخرون، ومنهم ابن عقيل، رحمه الله، إلى أن جملة "تسعى" حال من "حية"، واعترض فريق ثالث، منهم الشيخ محيي الدين، رحمه الله، إذ يقول:
إذا لم تجعل جملة "تسعى" خبرا ثانيا، كما يقول المعربون، فهي في محل رفع صفة لـ "حية" وليست في محل نصب، حالا من حية، كما زعم الشارح، أي ابن عقيل رحمه الله، وذلك لأن "حية" نكرة لا مسوغ لمجيء الحال منها، وصاحب الحال لا يكون إلا معرفة أو نكرة معها مسوغ، اللهم إلا أن تتمحل للشارح فتزعم أن الجملة حال من الضمير الواقع مبتدأ، أي: "هي"، على رأي سيبويه، رحمه الله، الذي يجيز مجيء الحال من المبتدأ.
بتصرف من "منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل رحمه الله"، (1/ 214).
ومسوغات مجيء الحال من النكرة إجمالا هي:
أولا: تقدم الحال على صاحبها النكرة، إذ كان نعتا لها لما كان متأخرا عنها فلما تقدم أعرب حالا، ومنه قول ذي الرمة صاحب مية:
لمية موحشا طلل ******* يلوح كأنه خلل
فقدم الحال "موحشا" على صاحبها النكرة "طلل"، وأصل الكلام: طلل موحش، فلما تقدم النعت انتصب على الحالية.
ثانيا: تخصيص النكرة بإضافة، كقوله تعالى: (في أربعة أيام سواء)، فـ "سواء" حال من "أربعة" التي أضيفت إلى "أيام"، فساغ مجيء الحال منها لأن النكرة إذا أضيفت خصصت، والتخصيص نوع من رفع الإبهام يجيز مجيء الحال من نكرة.
أو بوصف، ومنه قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنا)، فجاء الحال "أمرا" من النكرة الموصوفة "أمر" الأولى.
والمقصود بالأمر الأول: أمور العباد التي يقضيها الله، عز وجل، بقضائه الكوني، فهو واحد الأمور.
والمقصود بالأمر الثاني: أمر الله، عز وجل، الكوني، الذي ينفذ الله، عز وجل، به أقداره الكونية في عباده، أي الأمر الكوني: كن، فهو واحد الأوامر، والله أعلم
وقول الشاعر: نجيت يا رب نوحا واستجبت له ******* في فلك ماخر في اليم مشحونا
إذ جاء الحال "مشحونا" من النكرة "فلك" لأنها وصفت بالنعت "ماخر".
بتصرف من "التحفة السنية بشرح المقدمة الآجرومية"، ص110.
ثالثا: أن يتقدم على النكرة نفي أو شبهه، كقوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم)، إذ تقدم على النكرة "قرية"، نفي: "ما"، سوغ مجيء الحال: "لها كتاب معلوم"، منها والواو في "ولها"، واو الحال خلافا للزمخشري غفر الله له، الذي قال بأن جملة "لها كتاب معلوم" صفة من "قرية"، والواو إنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب.
وقد أبطل، إمام النحاة، ابن مالك، رحمه الله، قول الزمخشري إذ قال بأنه:
مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي، فلا يلتفت إليه، كما نقل ذلك عنه أبو حيان، رحمه الله، في "البحر المحيط".
ولابن هشام، رحمه الله، كعادته، تحقيق لطيف حول القاعدة السابقة إذ يقول ما ملخصه:
يقول المعربون على سبيل التقريب: الجمل بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال.
وشرح المسألة مستوفاة أن يقال:
الجمل الخبرية التي لم يستلزمها ما قبلها إن كانت:
مرتبطة بنكرة محضة فهي صفة لها، كما في:
قوله تعالى: (حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه)، فجملة "نقرؤه" الفعلية جاءت بعد نكرة محضة "كتابا"، فتكون في محل نصب صفة لـ "كتاب".
وقوله تعالى: (لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم)، فجملة "الله مهلكهم" الاسمية جاءت بعد نكرة محضة "قوما"، فتكون في محل نصب صفة لـ "قوما".
أو مرتبطة بمعرفة محضة فهي حال عنها، كما في:
قوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)، فجملة "أنتم سكارى" الاسمية جاءت بعد معرفة محضة "الصلاة"، فتكون في محل نصب حال منها.
أو مرتبطة بنكرة غير محضة، كما في:
قوله تعالى: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه)، فلك أن تقدر جملة "أنزلناه" صفة للنكرة وهو الظاهر، ولك أن تقدرها حالا عنها لأنها قد تخصصت بالوصف وذلك يقربها من المعرفة.
أو مرتبطة بمعرفة غير محضة، كما في:
قوله تعالى: (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، وقوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار)، فإن المعرف الجنسي، أي المعرف بـ "أل" الجنسية، يقرب المعنى من النكرة، فيصح تقدير جملتي: "يحمل" و "نسلخ" حالين أو وصفين.
ثم ذكر ابن هشام، رحمه الله، البيت السابق:
* ولقد أمر على اللئيم يسبني
بتصرف من "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"، (2/ 89_91).
¥