من أنه أعرب (إلاّ تجشؤكم) خبر لا، لكن ردّه عليه بوجهين، أحدهما: أن "لا"لا تعمل في الموجب. الثاني: أنها لا تعمل في الموجب مع المعرفة، وهما لازمان لإعراب "إلاّ اللّه "خبرا.
وفي الوجهين نظر، لأنّ "لا "عند سيبويه وجمهور البصريين [66] لا عمل لها في الخبر إذا بني الاسم معها. وقولك لا رَجُلَ حاضرٌ، بمثابة: هل مِنْ رجلٍ حاضر؟ الجواب كالسؤال.
واستدل لذلك ابن عصفور في شرحه للإيضاح بجواز حمل جميع التوابع لاسمها على الموضع قبل الخبر.
والقائل إن "لا"ترفع الخبر الأخفش [67] وتابعوه.
وبنى ابن عصفور على الاختلاف جواز: لا رجلَ ولا امرأة قائمان. على القول
الأول، وامتناعه علىَ الثاني [68]. مع أن كلام أبي البقاء [69] في اللباب، وابن يعيش [70] في شرح المفصل ما يوهم أن خلاف سيبويه والأخفش في "لا"مطلقا المبني معها الاسم والمعرب، حيث عللا مذهب سيبويه بضعف عمل لا.
ولكن ابن مالك [71] في التسهيل [72] نقل الاتفاق على عمل "لا"في الخبر إذا كان اسمها معربا، واختار قوله الأخفش فيما إذا بني الاسم معها.
ورتب أبو البقاء على الخلاف أن قوله الشاعر:
فلا لَغْوٌ ولا تأثيم فيها وما فاهوا به أبداً مُقيم [73]
لا يحتاج إلى تقدير "فيها"عند سيبويه، بل الثابت "فيها"خبر الاثنين، ويحتاج لتقدير "فيها"أخرى عند سيبويه في أحد قوليه، وعند الأخفش.
وكنت عرضت هذا النظر على شيخنا أبي حيان [74] فقال: كلام ابن الضائع محمول على مذهب من يرى أنها عاملة في الخبر مطلقا. ثم اعترض عليه من وجه آخر، وهو أنه يلزم أن تعمل "لا" [75] في المعرفة. وهذا إن تم به الاعتراض على الأخفش فسيبويه سالم منه، حيث يقول إن "لا"لا عمل لها في الخبر.
على أن ابن عمرون حين نقل هذا الإِعراب عن الزمخشري في الحواشي، ردّه بأن المعرفة لا تكون خبراً عن النكرة. فيقال له هذا لا يضر سيبويه إذا كان مع النكرة ما يسوغ الإخبار عنها، وهي متقدمة على المعرفة حفظا للأصول، وقد أعرب: كم جربيا أرضك؟ [76] مبتدأ مقدما وخبرا مؤخرا.
على أن ما ذكره ابن الضائع من أن "لا"لا تعمل في الموجب، قد يقال فيه إن تلك "لا"العاملة عمل ليس، من حيث إنها إنما عملت للشبه بليس من جهة النفي، فإذا زال النفي زال الشبه فزال العمل. أما لا النافية للجنس فعملها إنما هو بالحمل على إن، وهي للإثبات.
وقد قال العطار [77] في شرح الكراسة: إذا قلت "لا فيها رجل"رفعت على الابتداء لا غير، لأنه لا يتقدم خبر "ما"الحجازية، يعني "لا"العاملة عمل ليس. وإلا فالعاملة عمل إنّ امتناع التقديم فيها لأجل تركبها مع لا. وإن حملت كلامه على الإِطلاق، فالكلام معه كالكلام مع ابن الضائع.
وقد ردّ ابن الحاجب [78] على من جعل "إلا اللّه "خبرا. وسبق [79] إلى ذلك الأندلسي، قال: لأنه مستثنى من الاسم، ولا يجوز أن يكون المستثنى خبرا عن المستثنى منه، لأنه مبين له [80]. ويمكن أن يقال لا نسلّم أن الاستثناء إخراج من المحكوم عليه بل من الحكم. سلّمنا أنه إخراج من المحكوم عليه، لكن المستثنى منه المحكوم عليه ليس اسم "لا"الذي أخبر عنه بـ "إلا اللّه"، إلا أنه حذف لقصد التفريغ وأقيم المستثنى مقامه، وأعرب بإعرابه.
وهذا فرق ما بين الأقوال السابقة. وهذا حيث جعلنا الاستثناء فيها تاما، وهنا مفرغا، مع أن الخبر وهو "موجود"فيهما محذوف. إلا أن ذلك حذف لمحذوف محكوم له بحكم الثابت، وهذا فيه حذف لمحذوف معرض عنه في الإعراب.
وقد ردّ أبو البقاء العكبري هذا الإعراب أيضا في شرح الخطب النباتية، بأنه يلزم منه الإخبار بالخاص عن العام، وهذا مع الإخبار بالمعرفة عن النكرة.
ويمكن أن يقال إنما يمنع ذلك في الإثبات، كقولنا: الحيوان إنسان. أما في النفي
فلا. وقد ردّ ابن عمرون قول من جعل "إلا اللّه"خبرا بجواز نصب "إلا اللّه"على الاستثناء، ومحال نصب خبر لا المشبهة بأن، وإن كان الرفع المشهور. انتهى.
ولقائل أن يقول إذا نصبنا لم نعتقد الخبر إلا محذوفا. ولا يحسن الرد بهذا على من جعل "إلا"خبرا، مع تجويزه الوجوه السابقة. واللّه أعلم.
¥