تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومقابل هذا، فإن ما كان خبيثا فحكمه الأصلي هو التحريم، سواء كان مما فصل الله تعالى ومما ذكره باسم، أو لم يكن كذلك وعرفناه بصفته (الخبث). فهذا هو الاستدراك الذي لابد منه على كلام ابن حزم المتقدم، حيث يلح أن الحرام هو فقط ما ذكر الله تحريمه بالاسم. والحق أن الله تعالى حرم أشياء بصفتها، فمتى ثبتت تلك الصفة (الخبث والضرر) ثبت التحريم. ونبقى معه في أن كل ما لم يتصف بالخبث فحكمه الإباحة وحرية الاستعمال والتصرف.

من تطبيقات القاعدة وآثارها:

قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة "، تعني أن الإنسان حر مسموح له بالتصرف في نفسه وفيما يزدحم به هذا الكون من خيرات وكائنات ومنافع وإمكانات. فهذا هو الأصل المعتمد حتى يأتي استثناء شيء ممن له الأهلية وله الحق في ذلك، أو حتى يظهر فساد شيء ويثبت خبثه وضرره.

وهذه القاعدة قبل أن تحرر الإنسان في سلوكه وتصرفه، تحرره في إيمانه وضميره. فهو بفضلها يعلم ويطمئن أن ما لم يرد فيه تحريم ولا تقييد، وكان له فيه رغبة ومصلحة فهو له، ولا حرج فيه ولا خوف منه، وأن تصرفه ذلك حلال سائغ، فضلا من الله ونعمة.

ومن هنا ندرك ذلك السر والخيط الرابط بين تحليل الطيبات وتحريم الخبائث من جهة، وإزالة الأغلال والآصار من جهة ثانية. وأعني بذلك ما ذكره الله في صفات رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).

فالمؤمن إذا أصبح شاكا خائفا من شبح التحريم والإثم حيثما فكر وقدر، وكلما هم وعزم، وأينما تحرك واتجه، لمجرد أن كل ما ليس منصوصا على إباحته فهو حرام، أو يحتمل أن يكون حراما، أو قيل أنه حرام، أو فيه شبهة الحرام ... هذا المؤمن قد يدخل في أزمة إيمان وضمير، قبل أن يدخل في أزمة تصرف وتدبير.

ومن المجالات التي تحتاج إلى استحضار هذه القاعدة فيها، من أجل رفع الضيق والحرج والحيرة عن الناس، وحتى عن عقول الفقهاء أنفسهم، مجال المأكولات.

وفي هذا المجال أنزل الله تعالى عدة آيات (كلوا من الطيبات)، (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ... )، (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ... )، (فكلوا مما في الأرض حلالا طيبا)

ومع هذا كله نجد خلافات ونزاعات فقهية لا تنتهي في كثير من الأطعمة والحيوانات - أحلال هي أم حرام - مما يمكن رده إلى هذه الآيات وحسمه بها بلا تردد. فكل ما كان طيبا n أي يستطيبه الناس وينتفعون به n فهو حلال بلا تردد.

ولتوضيح هذه المسألة بكفاءة وجدارة، أستسمح القارئ الكريم في نقل نص مطول للعلامة المجدد محمد الطاهر بن عاشور، جادت به قريحته عند تفسير آية المائدة (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات)

فبعد أن ذكر طرفا من اختلاف الفقهاء في تحديد معنى الطيبات ومعيار تحديد ما هو طيب وما ليس بطيب، حيث أرجع بعضهم ذلك إلى عادات العرب وأذواقهم، وبعضهم أرجعه إلى المتحضرين من الناس دون أهل البداوة والبدائية ... بعد ذلك قال رحمه الله: " وفيه من التحكم في تحكيم عوائد بعض الأمة دون بعض ما لا يناسب التشريع العام، وقد استقذر أهل الحجاز لحم الضب بشهادة قوله n صلى الله عليه وسلم n في حديث خالد بن الوليد " ليس هو من أرض قومي فأجدني أعافه " ومع ذلك لم يحرمه على خالد.

والذي يظهر لي: أن الله قد ناط إباحة الأطعمة بوصف الطيب فلا جرم أن يكون ذلك منظورا فيه إلى ذات الطعام، وهو أن يكون غير ضار ولا مستقذر ولا مناف للدين، وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرمه الدين، وأن يكون مقبولا عند جمهور المعتدلين من البشر، من كل ما يعده البشر طعاما غير مستقذر، بقطع النظر عن العوائد والمألوفات، وعن الطبائع المنحرفات. ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات، ويترك بعضهم ذلك البعض. فمن العرب من يأكل الضب واليربوع والقنافذ، ومنهم من لا يأكلها. ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذر ذلك، وأهل مدينة تونس يأبون أكل لحم أنثى الضأن ولحم المعز، وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز، وفي أهل الصحاري تستجاد لحوم الإبل وألبانها، وفي أهل الحضر من يكره ذلك، وكذلك دواب البحر وسلاحفه وحياته. والشريعة أوسع من ذلك كله فلا يقضي فيها طبع فريق على فريق. والمحرمات فيها

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير