إن شيخنا روضة معارف لا تُمَلُّ مجالستُه، كريم الضّيافة، يدخل الرّجلُ مكتبته، فيحظى بعلم وقِِرى، يسمع منه الفوائد،وينال حظّه من القهوة والشّاي والرُّطَب، وتأبى سجيّتُه الكريمة إلاّ أن يختم ذلك كلّه بطيبٍ عاطر يعطِّر به زائرَه، وقد يعاتِبُه بعض الكبار في مبالغته في استعمال العود لزوّاره فيعتذر الشّيخ بأنّ الكتب لها هي الأخرى حظٌّ من بخاره! فانظر إلى كرمه، وجميل سجيّته، رحمة الله عليه.
لقد كان مجلسُ شيخنا بعد عصر كلّ يوم مجلساً حافلاً بالفوائد، ولو جرّد كلُّ طالب ما سمعه منه؛ لجاء سِفْراً كبيراً، مليئاً بأخبار الكتب -مخطوطِها ومطبوعِها- ولطائف الشّعر، وغرائب الأحداث والمشاهدات التي وقعت له في رحلاته، وأنباء من أدرك من مشايخ العلم وشيوخ الإجازات، إلى غير ذلك ممّا جادت به قريحته، رحمة الله عليه.
وممّا سمعتُه منه - رحمه الله - ممّا وجدتُّه في بعض التّعاليق بخطّي ما يلي:
1 - قوله: إنّ المراجع ما ذهبت إلاّ بعد السُّيوطيّ.
2 - ذكر الخطيب البغدادي -في ترجمة ابن حبّان- أنّ ابن حبّان ترك من التّراث ما لم يتركه غيرُه في زمنه، واستغربنا أين ذهبت! حيث لم نطلع إلاّ على قطعة من تلك الكتب، وأفاد أنّ ذلك بسبب الفتن، أو جهل من ورثها.
3 - لمّا دخلتُ -والكلام للشّيخ- جامع القرويين، بِفاس، بالمغرب؛ وجدتُّ رفوفاً مليئة بالمخطوطات، لكنّك لا تستطيع أن تُنزِل منها مخطوطاً سليماً! بل بمجرّد لمسه يتناثر قطعاً قطعاً!! وكان المسؤول -لمّا وصلنا فاس- توفّي، وجاء أحدهم مؤقّتاً، فسألته: ما هذا الإهمال؟ قال: هكذا الكتب!
وأعاد الشّيخ سبب خراب مخطوطات القرويين لأمرين:
الأوّل: الإهمال.
الثّاني: كثرة الصّراصير والغبار على نحو لا يتصوّر! وهكذا الشّأن مع مكتبة ابن أبي زيد القيرواني في تونس؛ حيث تَلِفَت الكتب على نحو لا يتصوّر [1].
4 - النّوم ثلاث لامات:
أ - عيلولة: وهو النّوم بعد العصر، وفيه حديث: «مَنْ نَامَ بَعْدَ العَصْرِ فَاخْتُلِسَ عَقْلُهُ؛ فَلا يَلُومَنَّ إِلاّ نَفْسَهُ». وهو حديث ضعيف.
ب- حيلولة: وهو النّوم بعد الفجر، يحول بين المرء وعمله، وفيه حديث: «اللَّهُمَّ، بَارِكْ لأمَّتِي فِي بُكُورِهَا». وهو حديث صحيح.
ج- قيلولة: وهو النّوم بعد الظُّهر، وهو مفيد، وفي الحديث: «قِيلُوا؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لا تَقِيلُ». حديث حسن.
5 - قيل لأحدهم: (لا خيرَ في السَّرَفِ)!
فقال: (لا سرفَ في الخير)!
6 - قال مالك:
(لا يقلْ أحدكم للمسكين: يرزقك الله!).
7 - قال الشّاعر:
وَلِلْبَخِيلِ عَلى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ [زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ]
8 - قال الشّاعر:
يَمُرُّونَ بالدَّهْنا خِفافاً عِيَابُهُمْ وَيَرْجِعْنَ مِن دارِينَ بُجْرَ الحَقَائِبِ
9 - وقال الشّاعر:
وَيُقْضَى الأَمْرُ حِينَ تَغِيبُ تَيْمٌ [وَلا يُسْتَأْذَنُونَ وَهُمُ شُهُودُ]
10 - ازدحام العلم في السّمع مَزلَّةٌ لعدم الفهم.
11 - رواة الموطَّأ كثير، منهم: يحيى بن يحيى اللَّيثيُّ، ويحيى بن بُكَيْرٍ، وأبو مُصعَب الزُّهْرِيُّ، وهو أشملُها، وأبو مُصعَب الزُّبيريُّ، والقَعْنَبيُّ، وابن زياد، وسُويدُ بن سعيد الحَدَثَانيُّ، وابن وهب، ومحمّد بن الحسن الشَّيبانيُّ، وابن القاسم، وهو أحسنُها، ومعن، وهو عكّازة مالك.
وقد مشى ابن بُكَير على طريقة يحيى بن يحيى اللَّيثي؛ لأنّه هو الموطّأ الذي تناولته الدّراسات واشتهر بين النّاس، أمّا الموطَّآت الأخرى -وتبلغ قريباً من 20 موطّأ، وكلّها روايات عن مالك، حيث إنّ كلّ طالب يكتب ما سمع- فتجد عند هذا ما ليس عند الآخر، فبهذا الاعتبار تعدّدت، وصار كلّ موطّأ فيه ما ليس في الآخر، وأكبرها موطّأ أبي مصعب الزُّبيري. وقد نبّه ابن عبد البَرِّ على اختلاف هذه الموطّآت في كتابه "التّمهيد".
سمعت هذه الفائدة حول الموطّآت عن شيخنا في مساء الأربعاء، 15 ذو القعدة، 1411هـ.
12 - قال الله تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ... ? [النساء:59].
* فقوله تعالى: ?أَطِيعُوا اللَّهَ? يعني: القرآن.
* ?وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ?: السّنّة.
¥