"وعندما يبلغ الأستاذ إلى نص الحديث ومتنه؛ يتفرغ لتحليله عارضا اختلافات الشارحين في روايته وإعرابه وتفسيره، ويهدف متخيرا الوجهة التي تترجح عنده فيوضحها أيما إيضاح، ويعزز ذلك بمقارنات حديثية، واستشهادات لغوية أو نحوية، ويرى في الأثناء مفيضا في استخراج ما يحتويه النص من نكت بلاغية أو بديعية، ويقارن الموضوع – أحيانا – بإنشادات شعرية قد يطغى عليها الأدب الأندلسي، في قطع شعرية أو قصائد طويلة ... ".
"وإثر هذا يأتي دور مستنبطات الحديث ومستفاداته، فيتنزل لتعليلها طبق ما توحي به قواعد أصول الفقه، ذاكرا الفقه المقارن، ومبرزا القاعدة الأصلية التي يستند إليها كل فريق، وحينما يرجع المستند إلى القياس، يجلى المسلك التعليلي مع ما قد يعرض له من قادح أو قوادح، ويزيد الموضوع دقة بما قد يتطلبه من الإحالة على بعض القواعد المنطقية".
"وإلى جانب اعتماده في أصول الفقه على "جمع الجوامع" لتاج الدين السبكي؛ نجده يرجع كثيرا إلى كتاب "الموافقات" للشاطبي، مستحضرا مسائلها استحضارا، ومستعرضا قواعدها، وقتا تراه يحتذي حذوها معرفا بأسرار التشريع الإسلامي، ومضيفا لذلك في ذات الاتجاه أفكار نفس المؤلف في المثبت من كتابه "الاعتصام"، إلى نظريات ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين".
"كما أنه يوضح عند الاقتضاء شرح ما تلمح له بعض الأحاديث من أهداف اجتماعية، مقارنا ذلك بما لابن خلدون في "المقدمة". ومن جهة ثانية: نجده يقابل بين أحاديث أخرى وما ترمي له من إشارات لواقع بعض المكتشفات الحديثة، مع إفاضة في هذا الشأن بالإحالات على المصادر المعاصرة عربية أو معربة".
"ويخلل في عدة مناسبات دروسه الحديثية بتفسير القرآن الكريم، فقد أقرأ في بعض الأيام تفسير سورة النور، وفي حقبة أخرى تفسير سورة الجن، وهو في كل تلك المراحل كما عهدناه ينسق عرض الدرس من حفظه تنسيقا، ويؤديه بصوت جهوري وبأفصح تعبير وأوضح بيان، مع تمهل في الإلقاء، وتؤدة في جلسته وحركاته كمان يدرك ذلك نبغاء طلبته". انتهى كلام الجراري بطوله لما فيه من الفوائد.
كما كانت له – رحمه الله – مشاركات في المسامرات العلمية التي كانت تعقدها عدة نوادي علمية وأدبية في مختلف مدن المغرب، تلك المسامرات التي كان يحضرها كبار علماء ونبغاء المغرب، ويظهر كل منهم حاد نظره وعقله في البحث والتنقيب في مسألة من المسائل العلمية أو الفكرية أو التاريخية، ولو لم يكن من فضلها إلا حضور أئمة الوقت ومشاركتهم فيها؛ أمثال حافظ الإسلام ونادرة الدهر الشيخ عبد الحي الكتاني، والحافظ الكبير الشيخ أبي شعيب الدكالي، والإمام البلغيثي، والصاعقة ابن الحُسْني؛ لكفاها أهمية ومجادة.
ويا ليت لو تنتشر هذه السنة الحسنة مرة أخرى في مختلف دول العالم الإسلامي، وإن كانت موجودة إلى الآن، وهي موجودة في نطاق ضيق، لأنتجت الثمرة المطلوبة من العلم والبحث، والمقارعة الفلسفية العميقة بين أسنة العقول، على أن تُدون كل مسامرة، ثم تجمع المسامرات وتطبع على هيئة بحوث علمية هادفة، تزهر الحضارة الإسلامية بمختلف الميادين.
قال الأستاذ عبد الهادي بوطالب: "وقد أولع – رحمة الله عليه – بمقارنة علم الشرق بعلم الغرب، ومقابلة نظريات ذلك بنظريات هذا، فأبحاثه عن ابن سينا وفلسفة إخوان الصفا تفتح له المجال لديكارت ومذهبه الفلسفي، وحين يتحدث عن أبي ذر الغفاري ومذهبه في الاشتراكية، ينتقل إلى فلسفة ماركس ولينين الاجتماعية ... وهكذا دواليك".
"ولقد كان السائح في آخر عمره يبحث في دراسة الذرة، ويريد استكناه حقيقتها، ولعله كان يحاول أن يجد لها مصدرا في الكتاب والسنة وآراء علمائنا" ..
"ويمتاز السائح بفكر حر قادر على الهضم، يعرف كيف يحسن الضيافة للجديد دون أن يضايق القديم، وبهذه الشجاعة التي كان يتسلح بها لهتك حجاب الحقائق الخفية وفض مكنوناتها" (2).
حاله:
كان – رحمه الله تعالى – إماما من أئمة العلم، ورائدا من رواده، ما ترك فنا من الفنون إلا وقرع بابه، ودخل ميدانه، حتى كان كعبة يطوف بها الوراد، وفحلا يفزع إليه رواد المعرفة والثقافة والعلوم.
¥