يضعنا هذا الخبر أمام أسئلة هامة منها: هل يعقل آن ينحت ملك تمثالاً لرجل أحب ابنته وطارحها الغرام؟ أو هل يكون منطقياً أن يُنحت تمثال لامرئ القيس؛ وكان الملك نفسه قد بعث إليه بالحلة المسمومة ليقتله ويتخلص منه؟ بينما يشير الخبر بوضوح إلى إقامة صرح فوق ضريح امرئ القيس. وهذا يدل على احترام القيصر للرجل القادم إليه، كما ينفي مقدرة الطماح على إيذاء امرئ القيس مهما حاول لديه. ويشير الخبر بدقة إلى وفاته قبل أن يدرك القسطنطينية؛ فقد بلغته وفادة الأمير العربي، ومن ثم وفاته بعد ذلك. وكأن الملك يأمل طمعاً في خطب ود حليف جديد من العرب مع الغساسنة.
ولو لم يكن هذا يجمع بين الطرفين لما صنع التمثال أبداً، فالتمثال رمز لتقدير الشاعر الأمير واعتراف من الملك بمكانته في القبائل العربية.
وأراني أعرض هنا للحلة المسمومة التي ادعى أصحابها أنها كانت سبباً في وفاة الشاعر –ولعل الذي يبطل هذه الخرافة ما حققناه من الرحلة سابقاً، وما بين أيدينا من شعره الموثق، وقد يكون جابر بن حني التغلبي من نقل إلينا أخبار الشاعر وشعره (42). فكيف يستقيم له أن ينقل شعره صادقاً ويخفي عنا أخباره عند القيصر وأخبار الحلة المسمومة؟
ونستفيد من الخبر الموجود في الكتاب الرومي القديم أن ذلك الرجل مات بالجدري.
وهذا حق لا يمارى فيه، لأن امرأ القيس يقرّ بمرضه الذي جعله ينتقل على قرٍّ صنعه له جابر بن حني التغلبي، "وجابر هذا من بني تغلب، وكان هو وعمرو بن قميئة يحملانه" (43). قال الشاعر (44):
فسحَّت دموعي في الرداء كأنها كلىً من شعيب ذات سحِّ وتهتانِ
إذا المرء لم يخزُن عليه لسانه فليس على شيءٍ سواه بخزَّانِ
فاما تريني في رحالة جابرٍ على حرجٍ كالقرِّ تخفق أكفاني
تأمل هذا اليأس الذي يطوي نفس الشاعر؛ فثيابه غدت أكفاناً له وقد أشبه الأموات؛ صار يسحُّ دمعه تهتاناً دون أن ينبس ببنت شفة حرصاً على كرامته؛ وهو الذي ملأ الدنيا شعراً، وفرَّج كرب المكروبين:
فيا رُبٍّ مكروبٍ كررتُ وراءه وعانٍ فككتُ الغلَّ عنه ففدَّاني
ويشير إلى سبب وفاته في سينيته التي رواها الأصمعي. ويعرض فيها لوصف الحمى التي تدهمه ليلاً فتؤرقه فلا يغمض له جفن كأنه أصيب بالنقرس وهذا الداء قديم طالما عاوده سابقاً، فإذا تنفس الصبح انكب على وجهه ملازماً النوم، على حين إذا عسعس الليل تفرغ لهمومه؛ وما آل إليه من حال سيئة (45):
فلو أن أهل الدار فيها كعهدنا وجدت مقيلاً عندهم ومعرَّسا
فلا تنكروني أنني أنا ذاكم ليالي حلَّ غولاً فألعسا
فاما تريني لا أغمض ساعة من الليل إلا أن أكبَّ فأنعسا
تأوبني دائي القديم فغلَّسا أحاذرُ أن يرتدَّ دائي فأنكسا
لقد أرعبت الحمى امرأ القيس كما أرعبت المتنبي الذي أبدع في وصفها وإن سبقه شاعرنا إلى طرق موضوعها (46). ثم يذكرنا بماضي شبابه متأسياً عليه وقد كانت الكواعب الحسان ترعوي إليه. ويعود مرة أخرى إلى عرض مرضه، إذ ضاقت ذراعه ذرعاً باللباس فلم يطقه؛ وقد غزت القروح جسمه. ودب الخوف في أوصاله، وأيقن أنه سيدرج في أكفانه تندبه الحسان، فصرخ متألماً ومتمنياً لو نفق مرة واحدة وانتهت آلامه:
وما خفت تبريح الحياة كما أرى تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا
فلو أنها نفس تموت جميعةً ولكنها نفس تساقط أنفسا
ترافقت الحمى مع الجدري والجرب وتبدلت صحته سقماً، وصار وجهه الوسيم دميماً، وآلت سعادته إلى شقاء وقد تحول الموت عنده إلى بؤس حقيقي:
وبُدلت قرحاً دامياً بعد صحة لعل منايانا تحولن أَبؤسا
ويروي السكري قطعة شعرية يتضح منها الأمراض المختلفة التي داهمت الشاعر.
فالجدري صيّره مقروحاً فتخاله يلبس جبة منها، بل أنه يهرش جلده كالمعرور؛ وكأنه نكب بالنقرس؛ وبدا القرح منقوشاً في جسمه كنقش الخواتم (47):
لمن طلل داثر آيُهُ تقادم في سالف الأحرسِ
فاما تريني بي عُرَّةٌ كأني نكيبٌ من النقرسِ
وصيَّرني القرح في جبَّةٍ تخالُ لبيساً ولم تُلبسِ
ترى أثر القرح في جلده كنقش الخواتم في الجِرجسِ
وذكر محقق الديوان في أعلى المقطوعة أنه قالها بأنقرة يذكر علته. وأكثر من تعرض لتحديد وفاته ذكروا أنه مات بالجدري ولكنهم جعلوه في أثناء عودته (48).
¥