تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا تركت أخباراً كمثيرة عارية عن الصحة فإنني أتوقف على خبر الطماح الأسدي واسمه حبيب، وكان امرؤ القيس قتل أخاه؛ فطوى كشحاً على مستكنة واندس إلى بلاط القيصر – وكان منه بمكان – وعمل على إيغار صدره، واحتال له وأشار إليه أن يبعث إلى الشاعر بالحلة المسمومة ففعل (31). وإذا كان العقل يقبل وجود رجل في بلاط الروم فإن العقل بجانب الحقيقة لو اقتنع بفكرة الحلة المسمومة. ولا أدل على ذلك من شعره الموثق الذي يقر فيه بمكائد الطماح على الرغم من البعد المكاني بين الاثنين (32):

لقد طَمَح الطماح من بُعدِ أرضه ليُلبسني من دائه ما تلبسا

وقبل أن أعرض لإثبات وفاة امرئ القيس بسبب الجدري والجرب والحمى أتوقف عند تواريخ الروم. فهي تذكر وفادة أمير على القيصر يدعى قيساً، وتثبت أنه كان أوفد ابنه معاوية قبل قدومه إليه، وكان القيصر قد حثَّ والي اليمن وحليفه ملك الحبشة على إعانة ذلك الأمير العربي. وهو ما ذكره توتوز وبروكوب (33). وهذا أمر مقبول عقلياً ومنطقياً لأنه قريب إلى الواقع؛ أما أن يمده بجيش فهذا محال "فليس هناك مأرب له قيمته في نظر القيصر يجعله يزود امرأ القيس بجيش كالذي تصفه الروايات" (34)، إذ كان في الغسانيين الكفاية للوقوف أمام المناذرة أولاً؛ كما كان فيهم –ثانياً-الوقوف أمام القبائل العربية ولا سيما أن شوكة كندة قد ماتت. ولا ينسى المرء أن يذكر وفاة امرئ القيس التي حدثت ما بين سنتي 530 - 540م (35) وكان حكم جوستنيان ما بين 527 - 565 بعد الميلاد (36). وهذا يعني أن امرأ القيس توجه – على الأغلب – إلى قيصر الروم نحو 530م (37).

[ COLOR="red"] وإذا كانت الأخبار قد شاعت حول رحلة امرئ القيس فإنا نرى أن الذي وصل إلى القيصر هو الأمير العربي – الكندي وابن عم الشاعر قيس بن سلمة. ويؤكد هذا بروكلمان (38)؛ كما يؤكد عدم وصول الشاعر إلى بيزنطة الدكتور جواد علي إذ قال:

"لم تشر الأخبار عن سفره إلى القسطنطينية وعن كيفية وصوله إلى قيصر، ويظهر من شعره على كل حال أنه سلك طريق الشام، وأنه مرَّ بحوران وبعلبك وحمص وحماة وشيزر. أما بعد ذلك إلى عاصمة الروم فلا نعرف عنه شيئاً" (39). ويبدو أن بعض الباحثين لم يرق له إلا إيصال شاعرنا إلى القيصر ليمده بالعون. ويظهر هذا الباحث نزعة مقيتة كان القربان لها امرأ القيس (40). ويمكنني الآن عرض خبر يؤدي أهدافاً عظمى للحقيقة المجردة. فتواريخ الروم تذكر أيضاً أن رجلاً أصيب بالجدري فمات بسببه وتنص هذه المرة على اسمه بامرئ القيس "وذكر في كتاب قديم مخطوط أن ملك قسطنطينية لما بلغه وفاة امرئ القيس أمر أن ينحت له تمثال وينصب على ضريحه ففعلوا. وكان تمثال امرئ القيس هناك إلى أيام المأمون. وقد شاهده الخليفة عند مروره هناك لما دخل بلاد الروم ليغزو الصائفة" (41).

يضعنا هذا الخبر أمام أسئلة هامة منها: هل يعقل آن ينحت ملك تمثالاً لرجل أحب ابنته وطارحها الغرام؟ أو هل يكون منطقياً أن يُنحت تمثال لامرئ القيس؛ وكان الملك نفسه قد بعث إليه بالحلة المسمومة ليقتله ويتخلص منه؟ بينما يشير الخبر بوضوح إلى إقامة صرح فوق ضريح امرئ القيس. وهذا يدل على احترام القيصر للرجل القادم إليه، كما ينفي مقدرة الطماح على إيذاء امرئ القيس مهما حاول لديه. ويشير الخبر بدقة إلى وفاته قبل أن يدرك القسطنطينية؛ فقد بلغته وفادة الأمير العربي، ومن ثم وفاته بعد ذلك. وكأن الملك يأمل طمعاً في خطب ود حليف جديد من العرب مع الغساسنة.

ولو لم يكن هذا يجمع بين الطرفين لما صنع التمثال أبداً، فالتمثال رمز لتقدير الشاعر الأمير واعتراف من الملك بمكانته في القبائل العربية.

وأراني أعرض هنا للحلة المسمومة التي ادعى أصحابها أنها كانت سبباً في وفاة الشاعر –ولعل الذي يبطل هذه الخرافة ما حققناه من الرحلة سابقاً، وما بين أيدينا من شعره الموثق، وقد يكون جابر بن حني التغلبي من نقل إلينا أخبار الشاعر وشعره (42). فكيف يستقيم له أن ينقل شعره صادقاً ويخفي عنا أخباره عند القيصر وأخبار الحلة المسمومة؟

ونستفيد من الخبر الموجود في الكتاب الرومي القديم أن ذلك الرجل مات بالجدري.

وهذا حق لا يمارى فيه، لأن امرأ القيس يقرّ بمرضه الذي جعله ينتقل على قرٍّ صنعه له جابر بن حني التغلبي، "وجابر هذا من بني تغلب، وكان هو وعمرو بن قميئة يحملانه" (43). قال الشاعر (44):

فسحَّت دموعي في الرداء كأنها كلىً من شعيب ذات سحِّ وتهتانِ

إذا المرء لم يخزُن عليه لسانه فليس على شيءٍ سواه بخزَّانِ

فاما تريني في رحالة جابرٍ على حرجٍ كالقرِّ تخفق أكفاني

تأمل هذا اليأس الذي يطوي نفس الشاعر؛ فثيابه غدت أكفاناً له وقد أشبه الأموات؛ صار يسحُّ دمعه تهتاناً دون أن ينبس ببنت شفة حرصاً على كرامته؛ وهو الذي ملأ الدنيا شعراً، وفرَّج كرب المكروبين:

فيا رُبٍّ مكروبٍ كررتُ وراءه وعانٍ فككتُ الغلَّ عنه ففدَّاني

ويشير إلى سبب وفاته في سينيته التي رواها الأصمعي. ويعرض فيها لوصف الحمى التي تدهمه ليلاً فتؤرقه فلا يغمض له جفن كأنه أصيب بالنقرس وهذا الداء قديم طالما عاوده سابقاً، فإذا تنفس الصبح انكب على وجهه ملازماً النوم، على حين إذا عسعس الليل تفرغ لهمومه؛ وما آل إليه من حال سيئة (45):

يتبع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير