تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تقول البطلة "حروف-الزين": «قال زوج أختي ... ستبقى حروف-الزين معنا، الأحياء الجامعية وكر للفساد، والعلاقات غير الصحيحة وغير الشريفة " mauvaises fréquentations" ثم هز رأسه، لم يعجبني كلامه، كان يريد أن يفصح عن شيء آخر، فهمته وفهمته أختي، رغم غباوتها الطفولية، لم أفكر في كلامه كثيرا، اعتبرت ذلك كلام ليل سيمحوه النهار، زوج أختي يحب أم كلثوم، خطه جميل، تفنن في كتابة معظم أغانيها على أوراق كرطونية جميلة، وألصق بعضها على جدران الصالون. إنهما يسكنان على سطح عمارة وسط المدينة، توسط له أبي عند صاحب العمارة فأعطاه شقة السطح المكونة من غرفتين وملحقاتها وفسحة واسعة، وأسراب حمام تجيؤها لتنام وتبيض وتفرخ هناك.» () إن الملاحظة الأولى التي يعرضها علينا الشاهد تتمثل في هذا الحشد الكبير من المعلومات المتنافرة التي يتعذر إيجاد الرابط بينها سريعا، وكأن كل عبارة فيه تتجه إلى وجهة لم تستكمل بعد عناصرها، ليلتفت إلى وجهة أخرى ليس بينهما من رابط سببي غير ما تدفعه البطلة في هواجسها الداخلية.

إننا ننتقل سريعا من الأحياء الجامعية الفاسدة .. إلى أم كلثوم وإجادة الخط .. إلى المسكن على سطح العمارة .. إلى الحمام .. كل ذلك في بضعة أسطر. وكان "التشضي" وما يحتِّمه من "تعدد" يملي على اللغة ضربا من السير اللاهث وراءه، فلا نكاد نصادف جملة مألوفة تتكون من مسند ومسند إليه. وإنما هي "عبارات" تتوسطها فواصل وحسب. فلا تتوقف الجملة عند حد تلملم فيه شعثها وتهذب عبارتها، وتتجمل قليلا لقارئها. بل يميل بها السير الحثيث، والنزق، إلى ضرب من السطحية التي تنتهي بها سريعا إلى اللسان الدارج، أو إلى ترجمة أجنبية تقحم إقحاما في صلب النص، وكأن الراوي لا يطمئن لفهما للكلمة العربية، أو لا يريد منا أن نفهم مرادها العربي، وأن نميل بها إلى المراد الأجنبي.

إن "التشضي" –على النحو الذي رأينا في الشاهد- لا يقدم للقارئ مادة يتدبرها، تحتل فيها الأشياء على بساطتها دور الرابط الذي يرتفع بنا من الشيء إلى الفكرة، ومن الفكر إلى المقاصد. وإنما يكدس "التشضي" و"التعدد" بين أيدينا كوما من الضجيج الذي يلطخ الصفحات تباعا من غير فائدة ترجى. إنها السمة التي يمكن إضافتها إلى العاملين السابقين، سمة "التلطيخ" " éclaboussure" وهي سمة نستعيرها من فن الرسم التجريدي الحديث الذي يعتمد في تشكيلاته على تقنية يدعوها " le tachisme" حين يعمد الفنان إلى اللون يرمي به وجهَ القماش، فاتحا أمام المصادفة أن تفعلها فعلها العشوائي في الأشكال والألوان.

ب-التشضي الداخلي:

تقول البطلة مستطردة: «كان زوج أختي لطيفا تلك الليلة، يرتدي تريكو من صوف أو قطن بلونين متعامدين: الأحمر والأسود، بدا لي يعقوب أكثر حيوية مما كنت أعتقد، وبشوشا أيضا. أختي تحتج دائما وتقول عنه إنه بارد وأناني وكثير الشخير في الليل، يقضم أسنانه، ولا يحسن ممارسة الجنس. أبدى اهتماما خاصا بي مما انزعجت له أختي، تركتنا وانسحبت غضبا لتنام حتى قبل أن تنهي عشاءها. سمعتها تتقيأ في "اللافابو" المغسل ثم في التواليت. إنها لربما علامات الحمل. حذرني يعقوب وبلغة أبوية خشبية من مغبة التوجه لدراسة الأدب، فالمستقبل غير مضمون في هذه التخصصات. وأنا أسمع كلامه وأهرب من سماعه وأتحاشاه، شعرت بنزلة ألم حادة في أسفل بطني، ثم شعرت بيتم فجأة. حوطني أبطال وشخصيات الروايات التي قرأتها على سطح منزل جدتي البسيط في ندرومة ... » ()

قد يفسر التداعي الداخلي كثيرا من الهواجس غير المترابطة التي تطل برأسها من بين العبارات اللاهثة وراء دلالات لا تكاد تبدأ حتى تنتهي. وكأننا أمام شخص غير سوي البتة، يحاول أن ينقل إلينا فيضا من المشاعر المتناقضة. وحين نطيل الإصغاء إليها ينتابنا شعور بالغثيان، إذ يتعذر علينا إيجاد خيط المعقولية فيما يقول ويفعل.

فإذا كنا قد تابعنا بمشقة علاقة البطلة بزوج الأخت، فإننا لا نجد مبرر الألم الذي انتابها، ولا مفسر شعورها باليتم، ولا كيفية ظهور أبطال الروايات التي قرأتها في ندرومة .. إن مثل هذا الغثيان يوحي للقارئ بأن الرواية تتقدم من غير هدى وأنها تصنع نفسها بنفسها استنادا إلى هواجس لا أول لها ولا آخر، وأنها لا تخدم فكرة جوهرية سينتهي إليها السرد إن آجلا أو عاجلا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير