تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

غير أننا حين نتقدم قليلا نصاب بخيبة الأمل في نتيجة ذلك "التلطيخ" حين يكون المراد من ورائه العبث بمشاعر القارئ عبثا رخيصا فجا، لا تكتب الرواية من أجله البتة. لقد كان الألم الذي انتاب البطلة من غير مبرر قبلا يدفعنا للسؤال عن وظيفته السردية، غير أن عبقرية السارد الفجة، تنتهي بنا إلى مثل هذا الحديث: «دخلت المرحاض، تقيات، قيئ أختي هو الذي قلب بطني وزلزل مصاريني، تيقنت أن العادة الشهرية لم يحن وقتها بعد، أطفأت نور المرحاض وأنا لا أزال بالداخل، شعرت براحة تامة، لأول مرة أكتشف متعة المرحاض بالظلمة: الآن فقط أدركت لماذا أطلق العرب على مراحيضهم اسم "بيت الراحة" لأول مرة يحسن العرب ويصيبون في إطلاق اسم على مسم .. بيت الراحة .. بيت الراحة .. ثلاث مسميات أتقن العرب تسميتها: بيت الله الحرام وبيت المال وبيت الراحة.» ()

إنه الحديث الذي ينتهي فيه المقدس عند القارئ ليتساوى بالنجس في سلسلة من الاستنتاجات الرخيصة، تدفع بها عبقرية مراهقة في ظلمة المرحاض. فإذا كنا نبحث عمن قتل الرواية وبدد جيوشا من القراء، فإن مثل هذه النتائج هي التي أودت بها إلى غير رجعة.

ولا تسلم اللغة المنهكة من التحريف والتزييف، حين يطلب منها أن تقول مثل هذه الأشياء قولا فجا، لن يستخلص منه التأويل ولا القراءة -مهما أوتيت من تعد وفضاء- شيئا يمكن رده إلى فكرة يتأسس عليها البناء الروائي. وقد يطول الحديث على هذا النحو، وتلطخ به الصفحات من غير أن تنضب تفاهته، وينتهي ضجيجه.

4 - اللاأدبية:

حين ننعت أثرا ما بالإبداع، فإنه يتعين علينا تحديد حقيقة الإبداع، لنعرف متى يكون الإنسان مبدعا. وكيف يخرج عمله من دائرة الحرفة التي يشترك فيها العامة من الناس، إلى دائرة التفرد التي يجد فيها الواحد منهم ما فاته من فهم دقيق للحياة ومعانيها. ذلك أن الإبداع: «إنما هو انفعال، ولكن الانفعال هنا لا ينفي التفكير، ولا يعني عدم جدوى التأمل، وإنما يعني اندلاع نار الوجدان –على حين فجأة- في وقود الفكر.» () فإذا كان حديث الفتاة المراهقة "انفعالا" فذلك لا يمنع السارد من أن يرتفع به من حضيض الكلام الفاحش إلى المعاني التي يحتاج إليها قراء الرواية في مختلف الأعمار والهيئات والأحوال. فإذا استمر الانفعال في خطية واحدة، فإنه سيبتعد عن الإبداع ليسقط في الهذر الذي تلطخ به الصفحات. فلا هو مثار "تجسس" مستحب مرغوب فيه- كما وصفه "ألبيرس" من قبل- ولا هو إشارات يستفتح بها التأويل أبواب الدلالة التي توسع من حدود النص. لأن الفكر الإيجابي الحق: «والجدير بهذا الاسم حقا هو الفكر الإيجابي الذي يتصدى لحقائق العصر الذي ينتمي إليه بالتحليل والتفسير والقويم .. والفكر الذي يكتفي بتبرير الواقع والدفاع عنه إنما ينتمي إلى مجال الفكر على سبيل المجاز لا الحقيقة.» () إن الوظيفة غير المعلنة لفعل الكتابة إنما تتلخص في حركات ثلاث: التحليل والتفسير والقويم. والرواية –كما أسلفنا- إن كانت تطمح لاستغراق الفنون كلها في شكل موحد، يتعذر عليها أن تتخطى هذه الحركات، لتفسح المجال أمام السقوط الحر الذي ينتهي بها إلى الهاوية.

إن "الإبداعية" هي أول ما يُسلب من الرواية حين تستكين للتشضي والتعدد والتسطيح. وحين يغدو التلطيخ حشوا يتذرعه السارد لاستفراغ شذوذه على الصفحات. إنها عين الملاحظة التي سجلها "سارتر" على "نتالي ساروت" حين كتب عنها قائلا: «إذا ألقينا نظرة على ما يدور في داخل نفوس الناس كما تطلب منا هي أن نفعل، فإننا نرى أشياء كثيرة مائعة لها ذؤابات مطموسة تمتاز بصفة التملص. فهناك تملص عبر الأشياء التي تعكس الكوني والدائم بهدوء، وهناك تملص عبر الاهتمامات اليومية، وتملص عبر السخافة والضعة.» () فإذا كانت كتابات "نتالي ساروت" تلامس هذه المستويات الثلاثة، فإنه مما يشفع لها أن السرد لديها ينفتح على تأويل وجودي يسعى وراء حقيقة الإنسان في نهاية المطاف، باعتباره أزمة يجب فكها روائيا بعدما عجزت الفلسفة عن قراءتها عبر التجريد والمفاهيم. وكأن الرواية التي تتخلى عن التحليل والتفسير والتقويم، إنما تضع نفسها في خانة "التشاؤم" لأن: «الأسس الأدبية للتأليف التجريبي متشابهة تشابها وثيقا مع أسس التشاؤمية. فالتشاؤمية تتخلى عن أهمية الجهد البشري، والتجريبية ... تتخلى عن كل ما يفهمه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير