والحق أنها قصيدة تفيض بالنصح والهداية والتبصير، ومع العذوبة والفصاحة والجزالة، وحسن الصنعة البلاغية الرشيقة، فهي كما قال ناظمها رحمه الله تعالى في أوائلها:
وأرع سمعك أمثالاً أفصلها كما يفصل ياقوت ومرجان
وهي أنطق دليل على رفعة أدبه، وبلاغة بيانه، وكياسة فكره، وصلاح نفسه، وقد ضمنها النصائح الغالية، والمواعظ البليغة الواعية، فهي لآلئ منثورة، وجواهر منظومة، وكل بيت منها حكمة مستقلة بنفسه، يغني عن قراءة رسالة أو كتاب، فهي من خير الشعر الحِكَميِّ وأبلغه.
1ـ زيادةُ المرءِ في دُنياه نُقصانُ
ورِبْحُه غيرَ مَحْضِ الخير خُسْرانُ
2ـ وكل وجدانِ حظٍّ لا ثباتَ له
فإنَّ معناه في التحقيق فِقْدانُ
3ـ يا عامراً لخرابِ الدَّارِ مجتهداً
بالله هل لخراب العمر عمران؟
4ـ وياحريصاً على الأموالِ تجمعُها
أُنْسيتَ أنَّ سرورَ المالِ أحزانُ؟
5ـ زع الفؤاد عن الدنيا وزينتها
فَصَفْوُها كدرٌ والوصلُ هِجْرانُ
6ـ وأَرْعِ سَمْعَك أمثالاً أُفصِّلُها
كما يُفَصَّل ياقوتٌ ومَرْجانُ
7ـ أحْسِنْ إلى الناسِ تَسْتعبِدْ قلوبَهُمُ
فطالما استَعْبَدَ الإنسانَ إحسانُ
8ـ يا خادمَ الجسم كم تشقى بِخِدمتِه
أتَطلُبُ الرِّبْحَ فيما فيه خُسْرانُ؟
9ـ أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ
10ـ وإن أساء مسيءٌ فليكُنْ لك في
عُروضِ زَلّتِه صَفْحٌ وغُفرانُ
11ـ وكن على الدهرِ مِعْواناً لذي أملٍ
يرجو نَداك فإنَّ الحرَّ مِعْوانُ
12ـ واشْدُدْ يديك بحبلِ الله مُعتصِماً
فإنه الرُّكْنُ إن خانَتْكَ أرْكانُ
13ـ من يتق الله يُحمَد في عواقبه
ويَكْفِه شرُّ من عزوا ومن هانوا
14ـ من استعانَ بغير اللهِ في طلبٍ
فإنَّ ناصِرَه عَجْزٌ وخِذْلانُ
15ـ من كان للخيرِ مَنَّاعاً فليس له
على الحقيقةِ إخوانٌ وأخْدانُ
16ـ من جادَ بالمالِ مالَ الناسُ قاطِبةً
إليه والمالُ للإنسانِ فَتَّانُ
17ـ من سالَمَ الناسَ يَسلمْ من غوائِلِهم
وعاش وهو قَريرُ العينِ جَذْلانُ
18ـ من كان للعقلِ سلطانُ عليه غَدا
وما على نفسِهِ للحرصِ سُلطانُ
19ـ من مدَّ طَرْفاً لفَرْطِ الجهلِ نحوَ هَوىً
أغضى على الحقِِّ يوماً وهو خزيانُ
20ـ من عاشَرَ الناسَ لاقى منهمُ نَصَباً
لأن سوسَهُمُ بَغْيٌ وعُدوانُ
21ـ ومن يُفَتِّشْ عن الإخوان يَقْلِهِمُ
فَجُلُّ إخوانِ هذا العَصْرِ خَوَّانُ
22ـ من استشارَ صروفَ الدهرِ قامَ له
على حقيقةِ طَبْعِ الدهرِ بُرهانُ
23ـ من يزرعِ الشَّرَّ يَحْصُدْ في عواقِبِه
ندامةً، ولِحَصْدِ الزَّرْعِ إبَّانُ
24ـ من استَنام إلى الأشرارِ نامَ وفي
قميصِهِ منهُمُ صلٌّ وثُعبانُ
25ـ كن رَيِّق البِشْرِ إنَّ الحرَّ هِمَّتُه
صحيفةٌ وعليها البِشْرُ عُنْوانُ
26ـ ورافِقِ الرِّفْقَ في كلِّ الأمورِ فلم
ينْدَم رفيقٌ ولم يَذْمُمْهُ إنسانُ
27ـ ولا يغرَّنَّكَ حَظٌّ جَرَّهُ خَرَقٌ
فالخُرْقُ هَدْمٌ ورِفْقُ المرءِ بُنْيانُ
28ـ أحْسِنْ إذا كان إمكانٌ ومَقْدِرةٌ
فلن يَدومَ على الإحسانِ إمكانُ
29ـ فالروض يزدان بالأنوار فاغمة
والحرُّ بالعَدْلِ والإحسانِ يَزْدانُ
30ـ صُنْ حُرَّ وجهِك لا تَهْتِك غِلالَتَه
فكلُّ حرِّ لحرِّ الوَجْهِ صَوّانُ
31ـ فإنْ لقيتَ عَدُواً فالْقَهُ أبداً
والوَجْهُ بالبِشْرِ والإشراقِ غَضّانُ
32ـ دَعِ التكاسُلَ في الخيراتِ تَطْلُبُها
فليس يسعدُ بالخيراتِ كسلانُ
33ـ لا ظِلَّ للمَرْءِ يَعْرى من تُقىً ونُهىً
وإنْ أظلَّته أوراقٌ وأفْنانُ
34ـ والناسُ أعوانُ من والتْهُ دَولَتُهُ
وهم عليه إذا عادَتْهُ أعوانُ
35ـ (سَحْبانُ) من غيرِ مالِ (باقِلٌ) حَصِرٌ
و (باقِلٌ) في ثراءِ المالِ (سَحْبانُ)
36ـ لا تودِعِ السِّر وشَّاءً يبوحُ بهِ
فما رَعى غنماً في الدَّوِّ سِرْحانُ
37ـ لا تحسبِ الناسَ طبعاً واحداً فلهم
غرائزٌ لستَ تُحْصيهنَّ ألوانُ
38ـ وما كلُّ ماءٍ كصدّاءٍ لوارِدِهِ
نَعَمْ، ولا كلُّ نَبْتٍ فهو سَعْدانُ
39ـ لا تَخْدِشَنَّ بمَطْلٍ وَجْهَ عارِفةٍ
فالبِرُّ يَخْدِشُه مَطْلٌ ولَيّانُ
40ـ لا تَسْتشِرْ غيرَ نَدْبٍ حازمٍ يقظٍ
قد استَوى فيه إسرارٌ وإعلانُ
41ـ فللتدابير فرسان إذا ركضوا
فيها أبروا، كما للحرب فرسان
42ـ وللأمور مواقيتٌ مقدرةٌ
وكل أمر له حد وميزان
¥