موتٌ يَليقُ بِنا.
ـ[د. خالد الشبل]ــــــــ[16 - 02 - 2005, 08:37 ص]ـ
ضجيجٌ لا ينتهي يدويّ في رأسي، ضوضاء مدمرة لا تسمعها أذناي تكاد تقتلني، أطرافي الباردة ترفض الانصياع لأوامري، ألم جسدي المكدود ما عاد يحتمل، دمائي النازفة ترسم خطًا بمسار زحفي المتعرج، جفاف حلقي يمنعني حتى من التحدث مع نفسي، والآن صوت العواء المتردد في هذا القفر!
أرحت رأسي على صخرة وصلتها بعد أن جرجرتني بقايا روحي إليها.
السماء الآن لا تبدو بعيدة كما كنت أعتقد!
أشعر انه يمكنني أن ألمس ذاك النجم المضيء، فقط لو تمكنت من إقناع يدي اليمنى بالاستجابة وترك القاذف الصاروخي.
لكن هي رفضت طاعتي من قبل، فلماذا تستجيب الآن؟
العواء يتردد مرة أخرى في جنبات الصحراء، لكن من مسافة أقرب.
عندما تركت بيتي على شط دجلة ما كنت أعلم بأن المطاف سينتهي بي هكذا!
عندما ارتديت بزتي العسكرية ما جال بخاطري أن أنتهي هكذا!
عندما التقى الجمعان ما تصورت أن تكون نهايتي هكذا!
توقعتها رصاصة، تخيلتها شظية، تصورتها قنبلة.
رأيت نفسي محمولا في نعشٍ لف بالعلم يتسلمه أبي لأدفن في المقابر خلف التل المشرف على حقلنا.
لكن بأنياب ذئب في صحراء؟ أين العدالة في نهاية مثل هذه؟
لقد اكتشفني، هذا واضح.
عيناه تنظران الي بشيء من الفضول، وأنفه لا يكف عن تشمم الهواء.
هل أثارته رائحة دمي النازف ولحمي المتشظي، وأطرافي التي احترقت اجزاءٌ منها عندما انفجرت عربتي العسكرية؟
عيناه ساحرتان، بهما من القوة والتصميم الكثير.
في الماضي كنت أملك مثل هاتين العينين، أما في هذه اللحظة فلا أملك سوى عينين دامعتين.
ليست دموع الخوف أو الفزع، بل دموع الإحساس بالظلم، وهوان النفس.
هي رثائي لنفسي، هي شكوتي لخالقي، هي رجائي الصامت.
توجهت بعيني للسماء راغبًا في دعاء أخير.
إلهي، كل ما أطلب هو ميتة أستحقها وقبرٌ يحتويني.
إلهي، رحماك بقلب أمي، رحماك بدموع أبي، وهم يبحثون عن قبر لي يتلون عنده أيات كتابك، كلما مزقهم الشوق الي.
إلهي، رحماك بجسد ما اقترف الخطيئة خوفًا من عقابك، وطمعًا في مغفرتك. رحماك أن يلوثه لعاب ذئب ناهش.
إلهي، رحماك بنفس تاقت للشهادة في ميدان الوغى، تزهقها أنيابُ وحشٍ في الفلاة.
يقترب مني ببطءٍ، يقترب بتصميم، يقترب بثبات.
رائحته الكريهة طغت على رائحة دمائي، أشعر بحاجة لتقيؤ ما في جوفي.
لكن ماذا أتقيأ ومعدتي خواء، ولم أذق طعامًا منذ يومين؟
نظرت إليه بطرف عيني الذابلة، تحدثت إليه هامسًا: "تعال، اقتربْ، انهشني ومزق جسدي، فأنت أولى من الغرباء على أية حال".
يبدو أنه قَبِل الدعوة، فقد بدأ يتشممّ طرف قدمي التي لا أشعر بوجودها، ولولا أنني أراها لجزمت بتركها خلفي في عربتي المحترقة.
رفعت عيني مرة أخرى للسماء، أنظر للأعالي بتضرع، لم أدع هذه المرة، بل اكتفيت بالصمت الأعلى صوتًا من الصراخ.
صوت يتردد بين جنبات الصحراء.
ما كنت أعرف بأن طحن العظام في فم الوحش له هذا الصوت المعدني الرتيب!
لم أستطع مقاومة النظر لساقي وهي تطحن، أنزلت عيني الدامعتين تجاه الذئب ناحية قدمي.
ولكن -ياللعجب- لماذا يفر هاربًا مني؟
لماذا يقفز فوق التلة (1) المجاورة ليختفي خلفها؟
لماذا لم يلتهمني؟
نظرت لساقي فوجدتها كما هي، مصابة، دامية، ممزقة، ولكن ليس بأنياب الذئب.
الصوت المعدني يعلو، يقترب!
إذن لم يكن صوت طحن عظامي!
أنوار، هناك الكثير منها، تقترب تجاهي بسرعة.
هذه الرايات!
اللعنة!
لقد عادوا!
بمعجزة كونية رفعت ظهري واعتمدت على قاذفتي، لأجلس بمواجهة الرتل القادم.
هيا يا ذراعي أطيعيني، هيا ارفعي هذه القاذفة وضعيها على كتفي، هيا أسرعي فالسماء استجابت لدعائي.
ما كنت أتصور أن ذراعي ستطيعني، وما كنت اتوقع أني أستطيع، وما عرفت أن بمقدوري فعل هذا.
منذ لحظات كنت مستسلمًا لذئب يأكل جسدي.
لكن الخط الناري الواصل بين أولى المركبات وفوهة مدفعي تعلن في وضوح أنني لم أستطع ترك الذئاب تأكل جسد وطني.
دوار يحيط برأسي وضباب يغلف عقلي، لا بد أن الموتَ قريبٌ جدًا الآن، لكني - يا للدهشة - لا أشعر بالخوف!
الأغطية البيضاء تغطي جسدي العاري، والوسادة الكبيرة يغوص بها رأسي، وكل تلك الأنابيب تستبيح أطرافي، وذلك الوجه الأحمر المنتفخ يرمقني في كراهية ثم ينظر للطبيب الواقف بجواري.
عاد الدوار ليمد سيطرته على عقلي، لكن قبل أن يفرضها بالكامل أستطعت أن أسمع الأحمر صاحب الوجه البغيض يقول بحقد للطبيب "هذا (الاوفسر) أتعبنا جدا ... لماذا لا يموت هؤلاء القوم في هدوء؟ ".
نظرت إليه بعينين استعادتا بريقهما، وبصقتها في وجهه: "لأننا نريد موتاً يليق بنا".
(1) كتبت: التبة، ولا معنى لها.
المصدر ( http://www.iraqpatrol.com/php/index.php?showtopic=7811)
ـ[ياسر الدوسري]ــــــــ[16 - 02 - 2005, 06:47 م]ـ
أستاذ خالد
من أنت؟ حتى تروي
نهمتنا للإبداع ثم تصمت فجأة
وتطيل الصمت
كن معنا في الفصيح دائماً
لك كل التحايا
¥