نزلوا من العينِ السوادَ وإنْ نأوا = ومن الفؤاد مكانَ ما أنا أكتمُ
رحلوا وفي القلبِ المُعنَّى بعدهم=وجدٌ على مَرِّ الزمان مخيمُ
وسروا وقد كتموا المسيرَ وإنما = تسري إذا جنَّ الظلامُ الأنجمُ
وتعوضت بالإنس روحي وحشةً=لا أوحش الله المنازل منهمُ
لولاهم ما قمت بين ديارهم=حيران أستاف الديار وألثمُ
لا تبعثوا لي في النسيم تحيةً = إني أغار من النسيم عليكم
إني امرؤ قد بعت حظي راضياً=من هذه الدنيا بحظي منكم
فسلوت إلا عنكم، وقنعت = إلا منكم، وزهدت إلا فيكمُ
ما كان بعد أخي الذي فارقته = ليبوح إلا بالشكاية لي فمُ
وهي قصيدة بديعة صادقة، وخير الشعر أصدقه لا أكذبه. والمهذب شاعر مطبوع، وأعجب من عدم شهرته بين أهل الأدب في زماننا، وقد رويت له يوماً بعض قصائده في مجلس من مجالس الأدب، فلم أجد أحداً يعرفه أو سمع به، وجلهم من الأدباء والمتأدبين. وسارع بعضهم بعد ذلك إلى ديوانه فابتاعه، وأخبرني أنه شاعر مغمور على جزالة شعره وقلته. وما اشتهر بعض الشعراء في زماننا وقبل زماننا إلا لكثرة شعرهم، وإن خف وزنه عند أهل النقد، وصيارفة الشعر.
وقديماً قال أبو العتاهية - وهو من المكثرين من الشعر - لمسلم بن الوليد صريع الغواني - (الصريع) كما سماه أخي الدكتور خالد الشبل وفقه الله -، قال له يوماً: لو شئت أن أجعل كلامي كله شعراً لفعلت!
فقال له مسلم بن الوليد وهو من الشعراء المتقدمين: والله لو كنت أرضى أن أقول مثل قولك:
الحمد والنعمة لك = والملك لا شريك لك
لبيك إن الملك لك
لقلت في اليوم عشرة ألاف بيت، ولكني أقول:
موفٍ على مُهَجٍ في يوم ذي رَهجٍ= كأنه أجلٌ يسعى إلى أملِ
ينالُ بالرفق ما يعيا الرجالُ به=كالموت مستعجلاً يأتي على مَهَلِ
يكسو السيوفَ نفوسَ الناكثينَ به = ويجعلُ الهامَ تيجانَ القنَا الذُبُلِ
لله من هاشمٍ في أرضهِ جبلٌ=وأنت وابنكَ ركنا ذلك الجبلِ
قال ابن هشام: صدق مسلم في قوله، فإن قوله هذا يرجح بكثير من قصائد أبي العتاهية رحمهما الله وغفر لهما. ومن أراد تنقيح شعره، والنظر في مبانيه ومعانيه وقوافيه لزمه لذلك وقت طويل، وقديماً سمي بعض الشعراء بعبيد الشعر لكثرة تنقيحهم للشعر، كزهير وأضرابه من الفحول الكبار. وقد تكلم العلماء في هذا وأكثروا.
قال ابن هشام: الشاهد عندي من أبيات المهذب بن الزبير هو البيت الثاني، حيث أعجبني في بيته ثلاثة معاني:
أولها: قوله نزلوا من العين السواد، وسواد العين أغلى ما فيها، فأحلهم فيه.
الثاني: استدراكه على قوله هذا بقوله: وإن نأوا. فقد جاء هذا الاستدراك في غاية المودة والصدق والوفاء، فحتى وإن ذهبوا فمحلهم سواد العين. ولله ذلك الحب الصاق، وهو يعني أخاه الوزير فيما يقولون ولعلكم ترجعون إلى قصته وترجمته في مظانها وسأخبركم بها.
الثالث: قوله: ومن الفؤاد مكان ما أنا أكتم.
أي أنه أنزل أحبابه في المكان الذي يستودع فيه أسراره ويكتمها. فهل تعلمون أين هو هذا المكان؟ وهل يعلم أحدكم مكاناً أخفى من هذا المكان تكون فيه المحبة؟ أما أنا فلا أعلم أحصن ولا أدق من هذا الموضع، وقد استحسنت هذا المعنى للمهذب وقادني هذا البيت إلى البحث عن شعره وتتبعه، ورب بيت قاد إلى ديوان. ورب قصيدة زهدتك في مكان أو زمان أو إنسان!
تجدون ترجمة وافية للمهذب بن الزبير واسمه الحسن بن علي بن الزبير، توفي سنة 561هـ وقد جمع شعره وحققه الدكتور محمد عبدالحميد سالم وطبعته دار هجر بالقاهرة عام 1409هـ
كما تجدون ترجمة له في معجم الأدباء 9/ 47 من طبعة أحمد فريد رفاعي رحمه الله وهي طبعة بديعة مبنية على طبعة مرجليوث، وهي مشكولة جدير بكل أديب أن تكون في خزانته. وهي عندي خير طبعات معجم الأدباء ولا استثني طبعة إحسان عباس في دار الغرب.
وفق الله الجميع لكل خير. وإلى لقاء مع البيت الثالث هو على طرف الثمام!
ـ[المستبدة]ــــــــ[01 - 02 - 2005, 06:35 ص]ـ
عليَّ أولاً أن أشكر لكم هذي التأملات في تلك الشوارد
والتي بلغت في نفسي مبلغ كل جميلٍ رقيق .. تصافحه روحي ..
حينما قبضت عيناي على جميل النبض هنا ..
لحظة جنح الفكر إلى حيث الأدب الرفيع .. والفكر النيّر ..
ما كان فوق .. براعة وتميّز في تلوين الفكرة .. والحرف .. حتى النزف الجميل .. !
¥