لقد أضفت الحقيقة التي وصل إليها أبوالعلاء المعري على نظرته للحياة لوناً حيادياً مطلقاً، لا هو بالأسود ولا هو بالأبيض، بل تساوت أمام عينيه الأضداد، لأن الكل في النهاية متساو، وفي ظلمة القبر وحُفر التراب ثاو.
تتجسد هذه النظرة في قصيدته العظيمة التي رثى بها الفقيه الحنفي والتي عنوانها «غير مجد!» يقول المعري فيها:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنم شادِ
وشبيه صوت النعي إذا قيس
بصوت البشير في كل نادِ
أبكت تلكم الحمامة أم غنت
على فرع غصنها الميّاد؟!
وتتجلى هذه النظرة المحايدة التي ترى الأضداد لا فرق بينها، نظرة تثير الضحك، ولكنه ضحك كالبكاء، ضحك مشوب بالعجب والاستغراب والتوجس، يوضح هذا قول المعري:
سر إن استطعت في الهواء رويداً
لا اختيالاً على رفات العباد
رُبَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفينٍ على بقايا دفينٍ
من قديم العهود والآباد
إلى أن يقول:
إن حزناً في ساعة الموت
أضعاف سرور في ساعة الميلاد
تعب كلها الحياة فما
أعجب إلا من راغبٍ في ازدياد
مولد وارتحال
إنه الشاعر الفيلسوف الزاهد «أحمد بن عبدالله بن سليمان» الذي لقب بـ «المعري» لمولده في معرة النعمان شمال سورية سنة ثلاث وستين وثلاثمائة هجرية (963م) في الرابعة من عمره أصيب المعري بالجدري فكُفَّ بصره مما ترك أثره على ظلمة نفسه ونظرته وزهده في الحياة، فعُرف «برهين المحبسين».
درس المعري على أبيه الذي مات وهو في الرابعة عشرة، فرحل إلى حلب حيث كانت الحركة الثقافية التي أنشأها سيف الدولة الحمداني لازالت مزدهرة، ومن هناك إلى أنطاكية التي كان التراث البيزنطي لازال يدافع عن وجوده فيها، ثم إلى طرالبس واللاذقية حيث أخذ عن بعض الرهبان ما عندهم من علوم اليونان وفلسفتهم.
وفي عام 398هـ رحل إلى بغداد ثم عاد إلى موطنه معرة النعمان بعد عامين ليجد أمه قد لحقت بأبيه، فاعتزل الناس إلى أن توفي في عام (449هـ) تاركاً بعض مؤلفات منها «سقط الزند» و «اللزوميات» و «رسالة الغفران» وعدد من الرسائل الصغيرة.
http://arabicmagazine.com/last_issue2.asp?order=3&last_issue_number=1200&num=1215
المجلة العربية. ـ دراسات أدبية.
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.