تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد برع الهمذاني في فن الرسائل، كغيره من كبار أدباء عصره في القرن الرابع الهجري، الذي كان من أزهى عصور النثر الفني والكتابة الأدبية في تاريخ الأدب العربي؛ فقد كان القرن الرابع هو العصر الذهبي لكتابة الرسائل، واتسمت الكتابة فيه بالإغراق في ألوان البديع، والولع بالزخارف اللفظية، حتى غدت الرسائل وكأنها نسيج رائع موشّى بالأسجاع، محلّى بالمحسنات البديعية ولآلئ البيان.

وقد انقسمت الرسائل تبعًا لأغراضها وأساليبها إلى نوعين:

الرسائل الديوانية: وهي التي تكتب في شئون الدولة، وتسجل الأحداث التاريخية أو الأوامر والتوجيهات الرسمية إلى الولاة والأمراء والقواد وكبار الموظفين في الدولة.

وكان من أشهر كتاب هذه الرسائل: أبو الفضل بن العميد، والصاحب بن عباد، والوزير المهلبي، والأمير قابوس بن وشمكير.

الرسائل الإخوانية: وهي التي يكتبها الأدباء عامة من غير العاملين في دواوين الدولة، وهي غير محددة بموضوعات معينة، وإنما يكتبها الأدباء في مناسبات خاصة أو مطارحات أدبية ومساجلات بلاغية فيما بينهم.

وكان من أشهر كتاب تلك الرسائل ـ بالإضافة إلى من سبق ـ: أبو حيان التوحيدي، وأبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني.

وقد ترك بديع الزمان تراثًا وافرًا من الرسائل التي عكست بوضوح انطباعاته النفسية العميقة، وحسه الفني المرهف، ومزاجه الأدبي الرفيع، وكشفت بجلاء عن خلجاته وأحاسيسه وكثير من جوانبه النفسية وحالاته الوجدانية من فرح وسرور، أو تشاؤم وحزن، أو شكوى ونقمة، وتظهر شجاعته واعتداده بنفسه، فهو لا يبالي في هجومه على من يتعرض لنقدهم، وإظهار الجوانب السلبية التي يراها في أعمالهم وسلوكهم.

وتناول الهمذاني في رسائله العديد من الأغراض: كالمدح والهجاء، والشكوى والعتاب، والتهنئة والاعتذار، والاستعطاف والاستجداء، والنصح والإرشاد، والصداقة والإخاء، والفخر والاعتزاز بالنفس.

كما حظيت الحياة العامة والجوانب الاجتماعية - وخاصة العيوب والسلبيات التي كانت منتشرة في زمانه- بنصيب وافر من رسائله، ولعله في ذلك يكون أول رائد لفن المقالة الصحفية في الأدب العربي، بل ربما كان أول صحفي على الإطلاق عند العرب وغير العرب، فليست رسائله التي تناول فيها المشاكل العامة نقدًا وبناءً إلا مقالات صحفية مبّكرة، وإذا كانت ميزات الصحافة الحديثة سرعة انتشار الصحيفة، فإن رسائل بديع الزمان شأنها في ذلك شأن غيرها من رسائل معاصريه، فلقد كانت سرعان ما تصل إلى كل مكان من الأرض الإسلامية، يتلقفها الناس ويقرءونها.

ويعنى الهمذاني في رسائله بانتقاء الألفاظ الموسيقية العذبة، كما يحرص على توليد الصور المختلفة في غير تكلف ولا عنت، فهو يردد المعنى الواحد بصور شتى، وصيغ متعددة، كما يحرص على الاقتباس من القرآن الكريم، والشعر العربي، ويهتم بألوان البيان كالاستعارة والتشبيه، كما يولع بالمحسنات البديعية كالسجع والجناس والطباق المقابلة.

مقامات بديع الزمان

ترجع شهرة بديع الزمان الهمذاني إلى مقاماته الشهيرة التي كان له فضل السبق إليها، فهو أول من ابتكر فكرتها، وأطلق عليها هذا الاسم حتى اشتهر بها وقد أعجب كثير من الأدباء بهذا اللون الجديد من فنون الأدب، فاقتفوا أثره ونسجوا على منواله.

وأصل المقامة في اللغة: المجلس والجماعة من الناس، وقد أُطلقت على المحاضرة، كما أطلقت على المجالس التي كان يستقبل فيها الخلفاء الأدباء والعلماء.

ويذكر الثعالبي في ترجمته لبديع الزمان أنه أملى أربعمائة مقامة بنيسابور، ولكن الذي وصلنا منها لا يتجاوز اثنتين وخمسين مقامة فقط. وقد اخترع الهمذاني بطلين لمقاماته، سمى أحدهما عيسى بن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري، وجعل الأول رواية، والثاني بطلا مغامرًا.

ولم يحرص بديع الزمان على أن يظهر أبا الفتح في جميع المقامات، بل كان يقلل من شأن مغامراته أحيانًا ويغفل ذكره أحيانًا، وشخصية أبي الفتح الإسكندري شخصية مثيرة متعددة الجوانب، تثير العجب وتدعو إلى الإعجاب، فهو يحترف الكُدية (التسول)، ويتميز بالفصاحة في اللسان، والبراعة في الشعر، كما أنه شخصية فكاهية مرحة، يتسم بالذكاء وخفة الظل، محب للمغامرة وارتياد المجهول.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير