أما أثره في المفسرين من بعده، فلم أقف على كتاب تفسير يصرح بالنقل عنه وإيراد أقواله، إلا أنه نُقل عنه في العلوم الأخرى خصوصاً في جانب العقيدة والرد على أهل الأهواء، وتقدم بعض ذلك عند ترجمته ([1]) خصوصاً نقول تلميذه الحافظ أبي القاسم الأصبهاني في كتابه "الحجة في بيان المحجة" لكثير من الأحاديث والآثار والآراء لأبي المظفر، ولأبي القاسم هذا كتبٌ في التفسير ([2]) لم أقف عليها، ولكنني أرجح أنه نقل عن شيخه أبي المظفر كثيراً في تفاسيره، كما نقل عنه في كتاب العقيدة.
وأيضاً مما يذكر في هذا الجانب الاتفاق الكبير بين تفسير أبي المظفر السمعاني وتفسير أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت 516هـ) الموسوم بـ"معالم التنزيل" في كثير من المسائل، حتى أن بعض النصوص في تفسير السمعاني لا توجد في أي تفسير سوى تفسير البغوي ([3])، بل إن المحققَيْن لطبعة دار الوطن اعتمدا في بعض النصوص التي سقطت من المخطوطتين _اللتين اعتمدا عليها في التحقيق_ أو لم تتضح لهما على إتمامها من تفسير البغوي ([4]).
وحيث أن البغوي لم يصرح بالإفادة عن السمعاني، بل ولم يُذكر أبو المظفر السمعاني ضمن مشايخ البغوي فيما وقفت عليه من تراجم البغوي ([5])، كما أن كلا هذين العَلمَين عاشا في عصر متقارب. فإنه ينقدح في الذهن احتمالان قويان:
الأول: أنهما أفادا من مصدر واحد إما من شيخ واحد أو من كتاب واحد.
الثاني: أن البغوي أفاد من أبي المظفر السمعاني دون أن يصرح بذلك في تفسيره، أيضاً بإحدى طريقتين: إما منه مباشرة، أو وقف على تفسيره وأفاد منه.
ومما يقوي هذين الاحتمالين:
1. أن كلاهما عاش في القرن الخامس الهجري.
2. أن كلاهما عاش في إقليم واحد وهو خراسان، بل في مدينتين متقاربتين، فالسمعاني من مرو الشاهجان قصبة ذلك الإقليم، والبغوي نسبة إلى بلدة بين "مرو" و "هراة" يقال لها: "بغشور" ([6]) أو "بغ" ([7]) التي ولد فيها، لكن قضى معظم حياته وتوفي في مرو الروذ القريبة جداً من مرو الشاهجان ([8]).
ثم إن كلاً من الاحتمالين يتفرع عنهما احتمالان أيضاً، فتكون المحصلة أربعة احتمالات نعرضها ونناقشها فيما يلي:
أولاً/ التقاء البغوي بالسمعاني والتتلمذ عليه، والإفادة منه مباشرة.
ويعضد هذا الاحتمال أمران:
أ- فارق السن: حيث أن أبا المظفر ولد عام 426هـ وتوفي عام 489هـ _كما تقدم_، بينما البغوي قيل أنه ولد عام 433هـ، وقيل عام 436هـ ([9]) وتوفي عام 516هـ باتفاق المؤرخين، ولكن تدل إشارة الذهبي بأنه توفي وله بضع وسبعون سنة على أنه ولد بعد هذين التاريخين، وربما في العقد الخامس من ذلك القرن، مما يجعل احتمال التقاء البغوي بالسمعاني في الثلاثينات من عمره _وهي من أواخر مراحل الطلب احتمالاً قوياً_، وأبو المظفر في أوج شهرته العلمية في خراسان بعد تحوله إلى المذهب الشافعي.
ب- عند قراءتي لبعض أسانيد البغوي في تفسيره، وجدت كثيراً من الأحاديث يرويه عن شيخه عبد الواحد المليحى، والذي بدوره يصرح في بعضها أنه سمعها من شيخه أبو منصور السمعاني ([10]) (ت 450هـ)، وأبو منصور هذا هو والد أبي المظفر، مما يدل على أن مشايخ البغوي هم من أقران أبي المظفر، مما يقوي احتمال كون أبي المظفر أحد هؤلاء المشايخ ([11]).
لكن يبقى هذا الاحتمال ضعيفاً وذلك لعدم ذكر المؤرخين والمترجمين لذلك، كما أن شهرتهما ومكانتهما السامية في المذهب الشافعي تأبى أن يُغفل المترجمون ذلك، أو حتى مجرد الإشارة إليه- لا سيما أبو سعد السمعاني حفيد أبي المظفر،-مع توفر الدواعي، وانتفاء الموانع، والله أعلم.
ثانياً/ إفادتهما معاً من شيخ واحد:
ويعضد هذا الاحتمال _كما يعضد الاحتمال الأول أيضاً_ رحلة البغوي إلى مرو الشاهجان والأخذ عن علمائها، بل صرح بذلك في مقدمة تفسيره فقال: "وأما تفسير الكلبي فقد قرأت بمرو على الشيخ أبي عبد الله محمد بن الحسن المروزي في شهر رمضان سنة 464هـ ... " ([12])، بل إن أبا المظفر يتفق مع البغوي في اثنين من المشايخ _مما وقفت عليه_ هما:
الشيخ المعمر الحافظ أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي المروزي (ت 463هـ) ([13]).
والحافظ أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن النيسابوري (ت 470هـ) ([14]).
¥