ولا شك أن هذا السؤال قائم والإشكال فيه وارد وسأحاول بتوفيق الله وتسديده أن أجلي معنى الآية وأوضح المراد منها لعل الله أن ينفعني وإخواني المسلمين بها وأن يبصرنا بالحق ويعيننا عليه. فأقول وبالله التوفيق:
الهم في اللغة: مصدر هممت. قال صاحب اللسان: تقول أهمني هذا الأمر. والهمة: ما هم به من أمر ليفعله ().
وفي المفردات: الهم: ما هممت به في نفسك ().
وقال الفيروزبادي: (الهمة: فعلة من الهم، وهو مبدأ الإرادة،ولكن حصولها بنهاية الإرادة. والهم مبدؤها، والهمة نهايتها ().
وقال الطبري رحمه الله: (ومعنى الهم بالشيء في كلام العرب حديث المرء نفسه بمواقعته ما لم يواقع) () وكذا قال ابن الجوزي ().
وقال الماوردي: (وأصل الهم حديث النفس حتى يظهر فيصير فعلاً، ومنه قول جميل ()
هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا) ().
وفي الكشاف:هم بالأمر إذا قصده وعزم عليه، ومنه قولك: لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هماً أي: ولا أكاد أن أفعله كيداً ولا أهم بفعله هماً ().
وقال البغوي رحمه الله: الهم:هو المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ().
والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه ذكره البيضاوي ().
وفي فتح القدير (هم بالأمر: إذا قصده وعزم عليه) ().
وأشار الآلوسي رحمه الله إلى أن الهم قد يستعمل بمعنى القصد والإرادة مطلقا أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت ().
فالهم يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه، ويكون بمعنى العزم وهو القصد إلى إمضائه فهو أول العزيمة.هكذا قال القاسمي رحمه الله ().
ومما سبق يتضح أن الهم قسمان وهذا ما نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: (الهم: اسم جنس تحته نوعان ... هم خطرات، وهم إصرار) ().
ومعرفة ذلك يساعد على فهم الآية إذ مدار الإشكال حول هذا اللفظ، فنبي الله هم وامرأة العزيز همت، فمتى اتضح المراد وعلم المعنى زال الإشكال وانطرد الوسواس.
المبحث الثاني
المراد بهم امرأة العزيز بيوسف عليه السلام
لم يختلف أهل العلم رحمهم الله في هم امرأة العزيز أنه الهم بفعل الفاحشة. وهذا أمر واضح بدلالة النصوص وانتفاء المعارض الصارف للمعنى الظاهر. وإليك البيان:
قال الله تعالي {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} ().
ففى هذه الآية الكريمة بيان أن سيدة البيت طلبت من أجيرها الطاهر يوسف أن يواقع الفاحشة معها وغلقت الأبواب لتسترها وتستره عن أعين البشر، وليكون الشيطان ثالثهما، فراودته المرأة وطلبت منه ما يكون من الرجال مع النساء، وقالت له: هيت لك، تعال وأقبل فقد تهيأت لك، فامتنع عما دعي إليه مستعيذا بالله راغباً في حسن المثوى والفوز بما عنده. وفي قوله {لا يفلح الظالمون} ما يدل على أن ما تدعوه إليه ظلم.
وقال تعالى: {واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم} ().
هذه الآية جاءت بعد الآية المقصود بيانها وهي قوله {ولقد همت به} وفيها بيان أن يوسف عليه السلام فر هارباً فذهب يسابق سيدته نحو الباب، هو هارب منها وهي طالبة له، هو هارب لطلب الطهارة والنزاهة، وهاربة هي لطلب الدنس والفحش، هرب منها فأمسكت به من الخلف حتى انقد قميصه، وحضر السيد قرب الباب وشاهد الموقف، فتغيرت بمشاهدته الأمور فانقلب العفيف متهما، والمراود حاكما، والسيد مصغيا ومنفذا.
هكذا تبين هذه الآية فلقد كانت تلك السيدة راغبة وحريصة على بقائه معها لعلها تحصل على مرادها. فلما رأت زوجها عند الباب وخافت الفضيحة عكست القضية وادعت مراودة يوسف لها.
ويدل على ذلك قوله تعالى {فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} ()
ففي تمزق قميص نبي الله يوسف من الدبر ما يدل على أن امرأة العزيز عازمة على الإمساك به وعدم تمكينه من الهروب.لعلها تحصل منه على تحقيق ما همت به.
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى عنها {قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين} ().
¥