فلا بد أن تظهر الحقيقة وإن طال الزمن، ولا بد أن تتكشف الأمور وإن حرص البعض على إخفائها، هاهي المرأة السيدة قد حاولت إخفاء فعلتها واستغلت قوتها وسلطانها، فألصقت التهمة بغيرها وعرضته للسجن سنين عديدة. إمرأة العزيز التي عملت ذلك كله هاهي الآن تفصح عن الحقيقة بجلاء وتصدع بها أمام الملأ، بعد أن هيأت من الأدلة ما يبرر فعلتها.
هاهي المرأة توبخ اللائمات لها من النساء كيف يلمنها على ما حصل منها، كيف يلمنها على مراودتها لهذا الشاب الحسن الجميل،كيف يلمنها ولا يلمن أنفسهن، لقد حاولت هي تقطيع عرضها ولم يتحقق لها ذلك،وكل اللائمات لها قطعن أيديهن.
لقد أذهل جمال يوسف النساء جميعا، فقلن حاشا لله ما هذا بشرا، قلن ذلك حين اطلع عليهن ورأينه، قلن ذلك وهذا ما تريده تلك المرأة المراودة، لقد وجدت لها عذرا عند الناس فصدعت بقول الحق وبينت براءة يوسف، اعترفت بعملها ومراودتها، وبينت نزاهة يوسف وطهارته وبعده عن مواطن الريب. شهدت على نفسها وكفى بها شهادة. ولقد راودته عن نفسه فاستعصم.
وقال سبحانه وتعالى: {قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته وإنه لمن الصادقين} ().
في هذه الآية اعتراف جماعي ببراءة يوسف عليه السلام وبعده عن مواقعة السوء، اعتراف من النسوة أولاً، ثم من صاحبة الشأن ثانيا، لقد اعترفت تلك السيدة بفعلتها هنا بكل وضوح وصراحة كما اعترفت فيما سبق بذلك،لقد اعترفت بفعلتها وأثبتت صدق يوسف عليه السلام وبراءته.
ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أن امرأة العزيز همت بفعل الفاحشة مع يوسف عليه السلام وحرصت على الظفر بمرادها وهيأت الأسباب، ولم يمنعها من ذلك إلا حفظ الله لنبيه يوسف عليه السلام وتمنعه وهروبه.
قال الطاهر بن عاشور: تأكيد همها بقد ولا القسم يفيد أنها عزمت عزماً محققا ().
ومما يدل أيضاً على أن هم امرأة العزيز كان هم عزم وإرادة أنه لا يوجد ما يصرف الهم منها لغير ذلك، فيوسف أعطي من الحسن ما يبهر العقول، وكان شاباً عزباً أسيراً في بلاد العدو، حيث لم يكن هناك أقارب أو أصدقاء فيستحي منهم إذا فعل الفاحشة، فإن كثيراً من الناس يمنعه من مواقعة القبائح حياؤه ممن يعرف، فإذا تغرب فعل ما يشتهيه، وكان أيضاً خالياً لا يخاف مخلوقا،وأجيراً عند المرأة، وهي امرأة منعمة لها سلطة ومكانة وليس لها دين يمنعها من ذلك. وزوجها في يدها قليل الغيرة، فما الذي يمنعها من تحقيق رغبتها و ولوعها بيوسف ().
وذكر أهل التفسير رحمهم الله أن همها هم قصد واعتقاد. ففي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: أنها همت منه بالمعصية هم نية واعتقاد ().
وذكر ابن الجوزي: أنها دعته إلى نفسها فترقت همتها إلى العزيمة فصارت مصرة على الزنا (). وذكر البغوي () والنسفي () وأبو السعود () والشنقيطي () أن همها هم عزم.وعند القرطبي: لا خلاف أن همها كان المعصية ().
مما سبق يتضح أن هم امرأة العزيز هو الهم بفعل الفاحشة.
المبحث الثالث
المراد بهم يوسف عليه السلام بامرأة العزيز
عرفنا فيما سبق هم امرأة العزيز وأنه هم قصد وإرادة لفعل الفاحشة، وليس المهم ذلك، ولكن المهم معرفة الهم الذي صدر من نبي الله يوسف عليه السلام وهو النبي المعصوم فهل همه كهمها أم لا؟
هذا ما سأحاول توضيحه بإذن الله فقد نثر الكلام فيه نثراً فحرصت على جمعه وترتيبه وتلمس الأدلة من سياق العبارات وتحديد الأقوال قدر المستطاع فأقول وبالله التوفيق: يمكن حصر الأقوال في هم يوسف عليه السلام بما يلي:
القول الأول: أن الهم الذي حصل من يوسف عليه السلام هو الهم بضربها أو أن ينالها بمكروه.
وأستدل من يقول بذلك بقوله تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} ووجه الدلالة عندهم أن الله قد صرف عن نبيه السوء والفحشاء، قالوا: والفحشاء غير السوء بدلالة العطف ولنفي التكرار، وبما أن الفاحشة هي الفعلة القبيحة كما هو ظاهر ومعلوم فالسوء هو الهم بفعل الأذى بها لمراودتها إياه ليصرفها ويبعدها، قالوا: والله قد صرفه عنه لأنه لو ضربها لجر التهمة إلى نفسه ولصدق الناس كل إدعاء قد تقوله.
¥