وفي هذا قال ابن الجوزي: (هم أن يضربها ويدفعها عن نفسه فكان البرهان الذي رآه من ربه أن الله أوقع في نفسه إن ضربها كان ضربه إياها حجة عليه لأنها تقول راودني فمنعته فضربني) ().وكذا قال القرطبي () وابن كثير () أيضا.
وقد رد العلماء رحمهم الله هذا القول ولم يرتضوه، فالطبري رحمه الله عند تفسيره للآية قال: (وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف، وتأولوا القرآن بآرائهم، فإنهم قالوا في ذلك أقوالا مختلفة، فقال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف وهم بها يوسف أن يضربها،أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه لولا أن يوسف رأى برهان ربه وكفه ذلك عما هم به من أذاها لا أنها ارتدعت من قبل نفسها) ().
وفي التسهيل قال ابن جزي: إن من جعل همها به من حيث مرادها وهمه بها ليدفعها، بعيد لاختلاف سياق الكلام ().
وقال الشنقيطي: تأويل الهم بأنه هم بضربها، أو هم بدفعها عن نفسه كل ذلك غير ظاهر، بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه ().
ويمكن أن يقال لهم: إن الفحشاء معطوفة على السوء فاللفظان مشتركان في الحكم والهم الذي هم به يتعلق بهما جميعاً فإذا حملتم الهم بالسوء على أنه الهم بالأذى فما أنتم قائلون بالهم بالفحشاء؟ وعليه فلا جواب وبهذا يتبين ضعف هذا القول.
القول الثاني: أنه هم بالدفاع عن نفسه.
والفرق بين هذا القول والقول الأول أن من قال هذا جعل الهم الصادر من امرأة العزيز هو الهم بالبطش بيوسف عليه السلام لامتناعه تنفيذ ما طلب منه، ومن قال ذلك جعل هم يوسف بالضرب غيرة وإنكاراً لا دفاعاً، فعلى القول الأول هو المبتدىء وعلى هذا القول هي المبتدئة.
وقد ذكر رشيد رضا: أن المرأة همت بالبطش به لعصيانه أمرها، لأنها في نظرها سيدته وهو عبدها ().
وقال الآلوسي: (همت به عليه السلام لتقهره على ما أرادته منه وهم بها ليقهرها في الدفع عما أرادته منه، فالاشتراك في طلب القهر منه ومنها والحكم مختلف) ().
وهذا القول مردود بما رد به القول الأول، مضافاً إلى ذلك أن هذا القول يجعل الهم الصادر من امرأة العزيز هو الهم بالضرب وهذا خلاف الصحيح كما مر معنا فيما مضى.ولذا استبعده ابن جزي كما في كتاب التسهيل ().
القول الثالث: أن همه عليه السلام هم بالعفة ().
وهذا القول ضعيف لأمرين:
أولاً: أنه يوهم أن يوسف عليه السلام قبل الهم بالعفة لم يكن عفيفاً وهذا باطل. وثانياً: لم أجد من ذكر هذا القول إلا الماوردي ولم يذكر دليلاً عليه لا عقلاً ولا نقلاً ولم يذكره أحد من المصنفين في التفسير غيره على حسب ما رأيت وكفى بإهمال العلماء له دليلاً على بطلانه.
القول الرابع: أنه هم بالمرأة أن يتزوجها ().
وهذا القول نسبه ابن الجوزي لابن عباس رضي الله عنهما ().
وهذا القول ضعيف أيضاً، وقد بين البغوي رحمه الله ضعفه فقال: (وقيل: همت بيوسف أن يفترشها، وهم بها يوسف أي: تمنى أن تكون له زوجة، وهذا التأويل وأمثاله غير مرضية لمخالفتها أقاويل القدماء من العلماء الذين أخذ عنهم الدين والعلم) ().
ويضاف لما قاله البغوي أن يقال:كيف يهم يوسف بالزواج من امرأة معصومة بزوج يعلم أنها لا تحل له.
ويمكن أن يقال أيضا: إن الهم بالزواج لا يعتبر إثما بل التصريح به لا شيء فيه، والله قد بين أنه صرف عنه السوء والفحشاء والهم بالزواج لا يدخل في السوء ولا في الفحشاء.
وبهذا يتضح ضعف هذا القول والله أعلم.
القول الخامس: أنه هم بالفرار منها.
وهذا قول ضعيف كما ذكر ذلك ابن الجوزي حيث قال: (وهو قول مرذول أفتراه أراد الفرار منها فلما رأى البرهان أقام عندها) ().
ثم هو عليه السلام لم يهم بالفرار بل فر حقيقة، وكذلك الهم بالفرار من المعاصي مما يمدح عليه، والآية تشير إلى أن يوسف عليه السلام هم بأمر لا يمدح عليه وأن الله أراه البرهان الذي بسببه عصم عن ذلك الهم وأن الذي عصم عنه سوء وفحشاء، وليس الفرار من المعاصي حقيقة داخلاً في السوء والفحشاء فكيف يدخل الهم بالفرار في ذلك.
القول السادس: أنه عليه السلام قارب الهم ولكن لم يصدر منه هم.
ومثلوا لذلك بقول العرب: قتلته لو لم أخف الله أي قاربت أن أقتله ().
¥