وذكر القرطبي أن لزلة الأنبياء حكما منها زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل ().
هذه هي الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول وكل دليل منها لا يسلم من النقد
فاستدلالهم بأن الهم ورد في الآية وهو مقابل بهم امرأة العزيز فيكون من جنسه ونوعه هذا لا يسلم لهم لأننا قد عرفنا أن الهم قسمان هم قصد وعزم، وهم خطرات، واختيار أحد النوعين وجعله مراداً في الآية يحتاج لدليل، وقد قامت الأدلة على أن هم المرأة هو القصد والعزم، وجعل هم يوسف من هذا النوع قادح في عصمة الأنبياء ولذا وقع الخلاف في الآية ولولا هذا المعارض القوي لما أطال الناس الكلام عليها ولسووا بين الهمين وانتهى الأمر هذا جانب. ومن جانب آخر في الرد على قولهم هذا أن يقال بناء على قولكم يمكن أن يجعل هم المرأة تبعاً لهم يوسف،وينزل همه على القسم الثاني من الهم وهو هم الخطرات حتى لا يطعن بالأنبياء فتكون بذلك لم تقع فيما تلام عليه، وأنتم وغيركم لا تقولون إلا أن هم المرأة هو العزم والأدلة قد قامت على ذلك. وبهذا ينخرم هذا الدليل.
وأما ما ورد عن السلف رحمهم الله فإن لكلامهم مهابة في النفس والتعامل معه يحتاج إلى روية، فهم أزكى قلوباً،وأعمق فهما،وأشد غيرة على مقام الأنبياء عليهم السلام، ولذا سأكتفي بإيراد ما قيل حول تلك الروايات المنقولة عنهم عليهم رحمة الله.
قال ابن الجوزي: (ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل،فإنه لو كان هذا دل على العزم،والأنبياء معصومون من العزم على الزنا) ().
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ما ينقل من أنه حل سراويله،وجلس مجلس الرجل من المرأة،وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده،وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء،وقدحا فيهم،وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا) ().
وقال أيضا: (وقد اتفق الناس على أنه لم تقع منه الفاحشة، ولكن بعض الناس يذكر أنه وقع منه بعض مقدماتها،مثل ما يذكرون أنه حل السراويل، وقعد منها مقعد الخاتن ونحو هذا، وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب وقد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضهم منهم، كما قالوا في سليمان [عليه السلام] ما قالوا، وفي داود [عليه السلام] ما قالوا، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه) ().
وقال الألوسي: وأما أقوال السلف فالذي نعتقده أنه لم يصح منها شيء عنهم لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فكيف بالمقطوع لهم بالعصمة ().
وقال ابن جزي: (من جعل هم المرأة وهم يوسف من حيث الفعل الذي أرادته ذكروا في ذلك روايات من جلوسه بين رجليها وحله التكة وغير ذلك مما لا ينبغي أن يقال به لضعف نقله، ولنزاهة الأنبياء عن مثله) ().
وأورد الشنقيطي كثيرا من الروايات المنقولة عن السلف ثم بين أنها منقسمة إلى قسمين.قسم لم يثبت نقله عمن نقل عنه بسند صحيح - وهذا لا إشكال في سقوطه - وقسم ثبت عن بعض من ذكر عنه، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات لأنه لا مجال للرأي فيه،ولم يرفع منه قليل ولا كثير إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف عليه السلام بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية يريد أن يزني بها، اعتمادا على مثل هذه الروايات ().
وأما استدلالهم بقوله {وما أبرى ءنفسي} فهذا مردود أيضاً فإن سياق الآيات يدل على أن ذلك من كلام امرأة العزيز وليس من قول يوسف.
¥