وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن قوله تعالى {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} من كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى {وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} () فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف عليه السلام إذ ذاك في السجن لم يحضر لمقابلة الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه. ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته، فحينئذ قال الملك {ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين}. وقد قال كثير من المفسرين: إن هذا من كلام يوسف،ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول، وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه بل الأدلة تدل على نقيضه ().
وقال رحمه الله: (ما ذكر من قوله {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} إنما يناسب حال امرأة العزيز لا يناسب حال يوسف، فإضافة الذنوب إلى يوسف في هذه القضية فرية على الكتاب والرسول، وفيه تحريف للكلم عن مواضعه، وفيه الاغتياب لنبي كريم، وقول الباطل فيه بلا دليل، ونسبته إلى ما نزهه الله منه، وغير مستبعد أن يكون أصل هذا من اليهود أهل البهت، الذين كانوا يرمون موسى بما برأه الله منه، فكيف بغيره من الأنبياء؟ وقد تلقى نقلهم من أحسن به الظن وجعل تفسير القرآن تابعا لهذا الاعتقاد) ().
وذكر رحمه الله أيضاً: أن الذي ابتلى به يوسف عليه السلام كان من أعظم الأمور، وإن تقواه وصبره عن المعصية حتى - لا يفعلها مع ظلم الظالمين له، حتى لا يجيبهم - كان من أعظم الحسنات وأكبر الطاعات وإن نفس يوسف عليه الصلاة والسلام كانت من أزكى الأنفس، فكيف أن يقول {وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء} والله سبحانه وتعالى يعلم أن نفسه بريئة ليست أمارة بالسوء، بل نفس زكية من أعظم النفوس زكاء، والهم الذي وقع كان زيادة في زكاء نفسه وتقواها، وبحصوله مع تركه لتثبت له به حسنة من أعظم الحسنات التى تزكي نفسه ().
مما سبق يتبين لنا ضعف هذا القول.
القول الثامن: لم يقع هم من يوسف عليه السلام.
واستدل قائلوا هذا القول بما يلي:
1 - أن هم يوسف عليه السلام الوارد في الآية جاء من باب المشاكلة فقط.
قال الآلوسي: إن التعبير عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهه به ().
2 - أن في الآية تقديماُ وتأخيراً فيكون المعنى: {ولقد همت به} ثم ينتهي الإخبار عنها ويبدأ الخبر عن يوسف بقوله: {وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} فلولا رؤيته برهان ربه لهم بها ولكنه رأى البرهان فلم يهم بها. وهو كقول الله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} ().
قال الزجاج: (والمعنى لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به) ().
وجاء في التبيان: أن جواب لولا محذوف تقديره لهم بها، والوقف على {ولقد همت به} والمعنى أنه لم يهم بها، وقيل التقدير لولا أن رأى البرهان لواقع المعصية ().
قال صاحب اللسان: (سئل ثعلب () عن قوله عز وجل: {ولقد همت به و هم بها لولا أن رأى برهان ربه} قال: همت زليخا بالمعصية مصرة على ذلك وهم يوسف عليه السلام بالمعصية ولم يأتها ولم يصر عليها فبين الهمتين فرق ... قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها) ().
وقد أشار الطبري والبغوي () وابن كثير () إلى ضعف هذا القول، وذلك أن العرب لا تقدم جواب لولا قبلها لا تقول لقد قمت لولا زيد وهي تريد لولا زيد لقد قمت.
وذكر النحاس أن قوماً قالوا في الآية على التقديم والتأخير ثم قال: وهذا القول عندي محال ولا يجوز في اللغة ولا في كلام من كلام العرب. لا يقال: قام فلان إن شاء الله ولا قام فلان لولا فلان ().
¥