وأورد ابن الجوزي هذا القول ثم نقل عن أهل العربية أنهم قالوا: تقديم جواب لولا عليها شاذ مستكره لا يوجد في فصيح كلام العرب ().
وقال القرطبي: (وأما يوسف [عليه السلام] فهم بها لولا أن رأى برهان ربه ولكن لما رأى البرهان ما هم وهذا لوجوب العصمة للأنبياء قال الله تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فإذا في الكلام تقديم وتأخير أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها) ().
وأشار الآلوسي إلى أن ما روي لا يساعد عليه كلام العرب لأنه يقتضي كون الجواب محذوفا لغير دليل لأنهم لم يقدروا بناءا على ذلك الهم بها وكلام العرب لا يدل إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأنه الدليل عليه ().
وقال النسفي: (جواب لولا لا يتقدم عليها لأنه في حكم الشرط وله صدر الكلام) ().
وذهب أبو حيان إلى أن الهم لم يقع من يوسف عليه السلام ولكنه لم يجعل جواب لولا متقدما بل جعله محذوفاً فقال: والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا نقول إن جواب لولا متقدم عليها وإن كان لا يوجد دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها بل نقول إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ().
واختار الشنقيطي رحمه الله هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وذكر أنه أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، وعلى هذا القول فمعنى الآية: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه،أي لولا أن رآه هم بها.فما قبل لولا هو دليل الجواب المحذوف ().
مما سبق يتضح أن هذا القول قد تباينت فيه أقوال أهل اللغة فبينما يجيزه البعض يرفضه آخرون.
القول التاسع: وقع هم من يوسف عليه السلام ولكنه هم خطرات لا عزم.
ومن أدلة هذا القول:
1 – قوله تعالى {قال معاذ الله إنه ربي}.
2 - قوله تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء}.
قال ابن الجوزي: واحتج على أن همته لم تكن من جهة العزيمة وإنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله {قال معاذ الله إنه ربي} وقوله {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} وكل ذلك إخبار ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية ().
3 - أن هذا فيه إثبات للهم دون القدح بعصمة نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، والهم كما مر قسمان: هم العزم وهم الخطرات. وهو هنا هم خطرات وهذا لا يؤاخذ عليه العبد.
قال ابن الجوزي: إن يوسف عليه الصلاة والسلام عارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب وحديث النفس من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهم ذنبا فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه، وقد سئل سفيان الثوري () أيؤاخذ العبد بالهمة فقال إذا كانت عزما ().
قال الشنقيطي: المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى، وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك)) () يعني ميل القلب الطبيعي ... وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد () كهم يوسف هذا، بدليل قوله {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما} () لأن قوله {والله وليهما} يدل على أن ذلك الهم ليس معصية لأن اتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية ().
4 - هذا القول يظهر رفعة نبي الله يوسف عليه السلام، وما سبق من الأقوال تسعى لنفي قدح قد يرمى به، وفرق كبير بين الأمرين. فنبي الله عليه السلام هم ولكن لم تتجاوز همته إلى المحظور فهو مثاب على ذلك ومأجور. يشهد لذلك الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال ((إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة)) ().
¥