وكلا المعنيين مقصود، الإقراض الحسن والمال الحسن ووصفه بالحسن إما لكونه طيب النية خالصاً لله تعالى، وإما لأنه يحتسب ثوابه عند الله، أو لأنه جيد كثير، أو لأنه مبرّأ من الشوائب والرياء وبلا منّ ولا أذى ([31]).
ومن نحو كلمة (ضلالاً) في قوله تعالى:] ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً [(النساء:
60). فالقياس أن تكون (إضلالاً) لأجل الفعل يضل، فمصدر (أضل): الإضلال، في حين أن (ضلال) مصدر (ضل). قال الله تعالى:] فقد ضل ضلالاً بعيداً [(النساء:16) والمقصود ـ والله أعلم ـ أن الشيطان يضلهم فيضلون ضلالاً بعيداً، فيكون الضلال أثراً من آثار الإضلال ونتيجة من نتائجه، بل هو استجابة له.
وقد جمع بين المعنيين: (الإضلال والضلال) في آن واحد. بمعنى أن الشيطان يريد أن يضل الناس ويهيئ لهم الأسباب ويزيّنها لهم ويريد أن يضلوا ويفعلوا ذلك بأنفسهم، فهو يفتح الباب ويبدأ المرحلة وهم يتمونها ([32]).
ومن ذلك أيضاً كلمة (يُضارَّ) في قوله تعالى:] ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد [(البقرة:282) فقد يكون المقصود بها (يضارِر) بفك الإدغام وكسر الراء الأولى والبناء للفاعل، وعندها يكون المعنى: نهي الكاتب والشهيد ـ إذا دعي أحدهم وهو مشغول ـ " ... أن يضاراً أحداً بأن يزيد الكاتب في الكتابة أو يحرِّف، وبأن يكتم الشاهد الشهادة أو يغيرها أو يمتنع من أدائها ( ... ) بأن يقولا علينا شغل ولنا حاجة ... " ([33]).
وقد يكون المقصود (يضارَر) بفك الإدغام وفتح الراء الأولى والبناء للمفعول، وفي هذه الحال نهي كذلك، لكنه نهي عن " ... أن يضارهما ([34]) أحد بأن يعنتا ويشق عليهما في ترك أشغالهما، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة" ([35]).
ومحصلة هذا أن المعنيين مرادان في الصيغة: إذ على الكاتب و الشهيد ألا يضرا غيرهما وعلى الغير ألا يؤذيهما أو يهددهما ويوقع عليهما الضرر، وربما لأجل هذا جاءت الكلمة بالإدغام، إذ لو أريد تحديد كل واحد منهما لفك الإدغام، ولقيل: لا يضارِر أو لا يضارَر.
4 ـ العدول عن تعبير إلى آخر:
قد يعدل في اللغة العربية عن تعبير إلى آخر لغرض مقصود يقتضيه المعنى أو المقام، وهو كثير في القرآن الكريم، من ذلك مثلاً كلمة (فتيلاً) في قوله تعالى:] ولا تظلمون فَتيلاً [(النساء: 49) قيل: هي القشرة والخط الذي في بطن النواة، ومن ثم يكون اسماً، وقيل: ما فتلته بإصبعك من وسخ اليد وعرقها ([36]). ومن ثم هو مشتق على وزن (فعيل بمعنى مفعول).
والكلمة في كل الأحوال تشير إلى أقل شيء وهو شبيه بقوله تعالى:] إن الله لا يظلم مثقال ذرة [(النساء:40)، وهي تحتمل من هذه الناحية معنيين:
الأول: أن يقصد بالفتيل (الظلم) أي لا تظلمون ظلماً قدر فتيل أو مهما يكن قليلاً، وعندها تكون الكلمة مفعولاً مطلقاً نائباً عن المصدر المحذوف فهو صفته.
والثاني: أن يقصد بالفتيل معناه الحقيقي، فيكون مفعولاً ثانياً بتضمين (يظلمون) معنى (ينتقص) أو (ينقص) وهو متعد إلى مفعولين ([37]).
ومنه كلمتا (خوفاً وطمعاً) في قوله تعالى:] وادعوه خوفاً وطَمَعًا [(الأعراف:56) هاتان الكلمتان من أفعال القلوب انتصبتا إما على المفعول لأجله، أي يكون الدعاء لأجل خوف منه وطمع فيه، وإما على أنهما مصدران في موضع الحال. وعدول القرآن عن الحال (خائفين طامعين) إلى المصدر توسيع للمعنى وتكثير له. من الحالية التي هي معنى واحد إلى المصدرية التي تشمل هنا: الحالية والمفعول لأجله والمفعولية المطلقة أي (خائفين طامعين، ولأجل الخوف والطمع، وتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، أو دعاء خوف وطمع، وكل المعاني مرادة مطلوبة) ([38]).
أي "قد شمل الخوف والطمع جميع ما تتعلق به أغراض المسلمين نحو ربهم في عاجلهم وآجلهم، ليدعوا الله بأن ييسر لهم أسباب حصول ما يطمعون، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون. وهذا يقتضي توجه همتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب وإلى امتثال المأمورات لأجل الطمع في الثواب" ([39]).
ومثل هذا كلمة (شيئاً) في قوله تعالى:] واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً [(النساء:36). قيل: إن الشيء هو الذي يصح أن يعلم ويخبر به كما أنه اسم مشترك المعنى إذا استعمل في الله وفي غيره، ويقع على الموجود والمعدوم.
¥