تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

خامساً: الهاء في قوله تعالى على لسان قائلها: (لم أخنه ((23) عائدة على يوسف عليه السلام، وأرادت امرأة العزيز أن تقول: لما وصل الأمر إلى خارج استطاعتها وقدرتها، وأصبح يوسف في خطر، أقرت بالصحيح لتنقذه، ففي السابق كانت تحاول أن تجبره على المثول لرغباتها، والآن هي لا تستطيع فعل ذلك، لأنها تخشى عاقبة ذلك لا على نفسها، لأنها امرأة العزيز نفسه، وإنما على يوسف نفسه عليه السلام، فقالت: ليعلم يوسف أنني ما خنته في قول الصحيح في غيابه، إذ أصبح الأمر بين يدي الملك خوفاً عليه، لأنها كانت تستطيع أن لا تقول الحقيقة، إذ لا شيء يجبرها على ذلك، وكانت تظنُّ أنها لو فعلت ذلك لقضت على يوسف بسبب أن أمره أصبح بيد مَن سلطته تفوق سلطتها. وهذا ما يفسر قوله تعالى على لسانها: (لم أخنه بالغيب (.

قال الأستاذ أحمد مصطفى المراغي: "أي ذلك الاعتراف مني بالحقّ له والشهادة بالصدق الذي علمته منه، ليعلم أني لم أخنه بالغيب عنه منذ سُجن إلى الآن، فلم أنَلْ من أمانته، أو أطعن في شرفه وعفّته، بل صرّحت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه فاستعصم، وهأنذا أقرّ بهذا أمام الملك ورجال دولته، وهو غائب عنا" (24).

وأمّا من قال: إنّه ليوسف عليه السلام يخاطب فيه العزيز؛ فيُردُّ بأن علم العزيز ببراءته حصل مسبقاً عندما شهد الشاهد بذلك، ولا مناسبة أن يقول يوسف للعزيز ذلك في هذا الموقف الذي ظهر فيه الحقُّ للناس، إذ إن العزيز وامرأته نفسيهما يعلمان الحقيقة، وقد اُضطرَّ العزيز إلى سجنه مع معرفته ببراءته، لكيلا يقال عن امرأته ما يمكن قوله.

وما قوله تعالى على لسان الشاهد: (فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين (إلا دليل على ذلك، وهذا مما يبطل معنى (بالغيب (في هذا السياق لو سُلّم بالرأي، لأنّ العزيز كان حاضراً لما تبيَّن الحقّ، وأن (ذلك (تشير إلى ما قامت به امرأة العزيز، وهو الإقرار بالمراودة، وأن الكلام متصل مع الآية قبلها، وهو من مفعول "قالت"، وأن تكون (وما أبرئ نفسي (من كلام امرأة العزيز أشدَّ تعبيراً لحالها وأكثر التصاقاً بواقعها من كونها ليوسف عليه السلام، لأن من يقرّ بالذنب يعلن عدم تبرئة نفسه منه.

ولذلك لا يستقيم أن يوجه يوسف عليه السلام هذا الكلام إلى العزيز، ولا سيما أن قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، و ما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (، يؤكد أن الكلام يستقيم إذا كان لامرأة العزيز، تريد فيه يوسف عليه السلام. وطبيعي أن تطلب المغفرة وأن تطمح برحمته، لأنها المذنبة المتجنية.

ويُضاف إلى ما ذُكر أن يوسف عليه السلام ما زال في سجنه لما قيل هذا الكلام في الجمع أمام الملك بدليل أن قوله تعالى: (وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي ((25) جاء بعد ذلك الكلام مباشرة، وورود قوله تعالى السابق في هذا الموضع، له دلالة خاصة، ويوحي بأن يوسف عليه السلام ما زال في سجنه لما قيل هذا الكلام.

وأما من قال: إنه لامرأة العزيز تعني فيه العزيز نفسه، فهو من الضعف من غير ما وجه، ولا سيما أن يوسف عليه السلام هو جوهر القصة، قال تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ((26)، وعليه تدور أحداثها، وتوجيه الكلام من امرأة العزيز إلى العزيز خروج عن أصل القصة وجوهرها، غير أن امرأته حاولت خيانته باعترافها بمراودة يوسف عليه السلام، ولم تفلح، وهي الآن في معرض قول الحقيقة، والكلام لا يستقيم صناعة، لأن العزيز كان حاضراً بين الجمع، ولم يكن غائباً. ولا مناسبة للالتفات أو غيره هنا.

سادساً: إن تغليق الأبواب باهتمام ـ وهو ما تدلّ عليه صيغة "فعّل" بتشديد العين ـ دليلٌ على خشيتها من هربه، لأنها تمكنت منه بعد محاولات كثيرة، ولا سيما أن الدخول إلى بيت مثلها، يقتضي ترتيباً معيناً، أقلُّه الاستئذان، فهي امرأة عزيز. وقوله تعالى: (واستبقا الباب ((27) نصٌّ على صحة ما ذهبنا إليه، فهو يجري إلى الباب طلباً للهرب، وهي تجري إليه طلباً لمنعه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير