تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سابعاً: قوله تعالى على لسان امرأة العزيز: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ((28)، يجعل رأي من سلَّم بأن الهمَّ وقع منه غيرَ مسلَّم به، لأنها في هذا السياق لم تقرّ بالمراودة فقط، بل أقرَّت بأنه استعصم أيضاً، ولأن الاستعصام (29) ينفي عن صاحب الهمّ الذي يرون في وقوعه من الأنبياء أمراً عادياً (30). وكذا قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: (معاذ الله ((31)، وهو وارد في السورة قبل آية الاختلاف.

ثامناً: المراودة عن النفس، تدلُّ على عدم وقوع الهمِّ، لأنه من النفس، والمراودة ثابتة في حصولها من امرأة العزيز في غير ما موضع من السورة، ولا سيما أنها كانت عملاً مكروراً منها. قال الشوكاني: "المراودة: الإرادة والطلب برفق ولين، وقيل: هي مأخوذة من الرود أي: الرفق والتأني، يقال أرودني: أمهلني؛ وقيل: المراودة مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب. كأن المعنى: أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع، ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ، وقد يخص بمحاولة الوقاع، فيقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه: إذا حاول كل واحد منهما الوطء والجماع، وهي مفاعلة، وأصلها أن تكون من الجانبين، فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قائماً مقام المسبب، فكان يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن سبباً لمراودة امرأة العزيز له مراود" (32).

تاسعاً: قال الطبري: "وأما آخرون ممن خالفوا أقوال السلف، وتأولوا القرآن بآرائهم؛ فإنهم قالوا في ذلك أقوالاً مختلفة، فقال بعضهم: معناه: ولقد همت المرأة بيوسف، وهم بها يوسف أن يضربها، أو ينالها بمكروه، لهمِّها به مما أرادته من المكروه لولا أن يوسف رأى برهان ربه، وكفَّه ذلك عما همَّ به من أذاها، لا أنها ارتعدت من قِبَل نفسِها، قالوا: والشاهد على صحة ذلك قوله: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء (، قالوا: فالسوء هو ما كان همَّ به من أذاها، وهو غير الفحشاء" (33).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: "أجمع أهل اللغة على أن الهمّ إنما يكون بالأعمال، لا بالشخوص والأعيان، وتحقيق معناه أنه مقاربة فعل تعارض فيه المانع والمتقضي، فلم يقع لرجحان المانع، وهو الموافق لقول علماء الأصول في التعارض الأعمّ، ولكن رجحان المانع هنا قد يكون بإرادة صاحب الهمّ، ومنه همُّ يوسف، وقد يكون من غيرهن ومنه همُّ هذه المرأة، كان همّهما واحداً، وهو البطش بالضرب، أو ما في معناه، وكان المانع منه إرادته هو وعجزها هي بهربه" (34).

وأقول: تفسير الهمّ منها ومنه بعيداً عن الميل العاطفي وأن البرهان منْعُه عن ضربها أو غير ذلك خروجٌ على السياق المراد في القصة، وابتعاد عن جوّ الآيات السابقة واللاحقة، وهروب من الإقرار بوقوع الهمّ العاطفي منه عليه السلام، وعدم الإقرار بوقوع ذلك منه مطلوبٌ في سياق الآيات، لا في الخروج الظاهر على المراد، وعدم الإقرار يحتاج إلى سوق الأدلة التي تؤكد عدم وقوعه منه في جوهر الأمر، لا في تفسير بعيدٍ عما تقتضيه الآيات الأخرى في السياق ذاته.

وقوله تعالى: (واستبقا الباب (نصٌّ على ضعف أنها همّت بنهره وزجره لعدم امتثاله لما تريده، وأنه همّ بإبعادها عنه، وأنّ البرهان منعه عن ضربها، قال في اللسان: "وقوله تعالى: (إنا ذهبنا نستبق ((35)؛ قيل: معناه نتناضل، وقيل: هو نفتعل من السبق. (واستبقا الباب (: يعني تسابقا إليه، مثل قولك: "اقتتلا بمعنى تقاتلا ومنه قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات ((36)؛ أي بادروا إليها" (37).

فهذه الصيغة تدلُّ على المبالغة في افتعال الأمر (38)،ولو كان أمر الضرب وما إلى ذلك وارداً؛ لَمَا استبقا الباب، ولا سيما أن الفعل جاء بصيغة المثنى، فدلَّ بذلك على أن التسابق إلى الباب كان بسبب الرفض القاطع من يوسف عليه السلام لما دعته إليه، وهذا مدعاة إلى أن حالته العاطفية لم تكن حاضرة، وفي ذلك إشارة إلى خلوِّ قلبه من الخطرات، فالجري إلى الباب يشير إلى أنه لما تفاجأ بمنظر امرأة العزيز، وقد هيأت نفسها، ذهب إلى الباب جارياً، يريد الهرب من هذا، والتخلص منه، فلحقت به تمنعه عما أراد، فأصبحا بمنزلة المتسابقَين إلى الباب. فأين هذا المشهد الذي دلَّت عيه صيغة الفعل من أي شبهة في وقوع الهمِّ منه، إذ لا شيء يدعو مَن وقع منه الهمُّ إلى الهرب، قد يدعوه البرهان إلى الخروج من بيتها، لكن لا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير