تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم إن هذه المسألة لا تتعلق بأمر، يمكن للأنبياء أن يقعوا في أمثاله، فنتساهل في ما ذهبوا إليه، فالعين فيه قد تكون زانية، فكيف بمن يُتبع ذلك أفعالاً معينة، إذ إن كل ما يسبق الفعل يُعدُّ هماً، فيتساوى بذلك مع السوء، إذ كل ما يسبق الفاحشة سوء، وكل ما يسبق الزنى همٌّ به، فإذا كان الزنى فاحشة؛ فإن الهمَّ به سوء، وهذا من الأمور التي يكون فيها الأنبياء أبعد ما يكونون عنها (50).

الثاني عشر: قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: (قال معاذ الله ((51) بعد قوله تعالى على لسان امرأة العزيز: (وقالت هيت لك (مباشرة دون أي انقطاع أو انفصال دليلٌ على أنه عليه السلام لم يغفل عن ربّه، ولم يستسلم لنفسه فيما يمليه منظر امرأة العزيز، إذ لا مدَّة تفصل بين الأمرين، حتى يكون ثمة همٌّ منه، وإن كانت يسيرة.

الثالث عشر: أمّا جواب "لولا" في هذه الآية فمُختلفٌ فيه، وهذا البحث بما أورده من أدلة سابقة تنفي الهمَّ عنه عليه السلام، يؤكد أن جوابها إما تقدّم عليها، أو يُقدّر من نفس الكلام الذي تقدمها، إذا منع عن ذلك مانع صناعي، ولا سيما أن البرهان منع يوسف عليه السلام عن الهمِّ، وليس من فعل الفاحشة، لأن البرهان قد يمنع الإنسان المؤمن عن فعل مثل هذه الفاحشة، لا من الهمّ بها، وهذه ميزة يوسف عليه السلام من غيره، إذ إن عظمة الموقف في القصة أنه امتنع من الهمّ، وأما الامتناع من الفاحشة نفسها بسبب البرهان؛ فليس فهي ما يدعو إلى الإعجاب به عليه السلام.

انقسم النحويون في هذه المسألة بين مجيز تقديم جواب "لولا" عليها، وهم قلة، وبين غير مجيز، وهم كثرة. وقد بسط الطبري الأمرين في تفسيره بقوله: "وقال آخرون منهم: معنى الكلام: (ولقد همت به (، فتناهى الخبر عنها، ثم ابتدئ الخبر عن يوسف، فقيل: "وهم بها يوسف لولا أن أرى برهان ربه"، كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن يوسف لم يهمَّ بها، وأن الله إنما أخبر أن يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهمَّ بها، ولكنه رأى برهان ربه فلم يهمَّ بها، كما قيل: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلا (.

ويفسد هذين القولين أنَّ العرب لا تقدِّم جواب "لولا" قبلها، لا تقول: "لقد قمت لولا زيد وهي تريد: "لولا زيد لقد قمت"، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله. وقال آخرون منهم: بل قد همّت المرأة بيوسف، وهمّ يوسف بالمرأة، غير أن همَّهما كان تمثيلاً منهما بين الفعل والترك، لا عزماً ولا إرادة. قالوا: ولا حرج في حديث النفس ولا في ذكر القلب إذا لم يكن معهما عزمٌ ولا فعل" (52).

قال البغوي: "وزعم بعض المتأخرين: أن هذا لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام، وقال: تمَّ الكلام عند قوله: (ولقد همّت به (، ثم ابتدأ الخبر عن يوسف عليه السلام، فقال: (وهمَّ بِها لولا أن رأى برهان ربِّه (على التقديم والتأخير، أي: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، ولكنه رأى البرهان فلم يهم.

وأنكره النحاة وقالوا: إن العرب لا تُؤخّر "لولا" عن الفعل، فلا تقول: "لقد قمتُ لولا زيد وهو يريد: لولا زيد لقمتُ" (53). وقال الزجاج: "وليس في الكلام بكثير أن تقول: "ضربتك لولا زيد"، ولا "هممت بك لولا زيد إنما الكلام: "لولا زيد لهممت بك"، و"لولا" تجاب باللام، فلو كان: "ولقد همّت به ولهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه"؛ لكان يجوز على بعد (54). وقال النحاس: "وزعم الخليل أن "قد" للتوقع، و"همّ بها" قد ذكرنا معناه (55)، وأنّ قوماً قالوا هو على التقديم والتأخير. وهذا القول عندي محال، ولا يجوز في اللغة ولا في كلام من كلام العرب، لا يقال "قام فلان إن شاء الله"، ولا "قام فلان لولا فلان" (56).

قال الزمخشري: "فإن قلت: قوله: (وهمّ بها (داخل تحت حكم القسم في قوله: "ولقد همّت به (، أم هو خارج منه، قلت: الأمران جائزان، ومن حقّ القارئ إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعْله كلاماً برأسه أن يقف على قوله: (ولقد همّت به (، ويبتدئ قوله: (وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربِّه (" (57).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير