(قرر ابن القيم رحمه الله في أكثر من موضع أن قول الله تعالى: {فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون} من باب الاستطراد؛ فهو استطراد من ذكر الأبوين إلى ذكر الذرية. وذكر في أحد هذه المواضع أنه لا يلتفت إلى قول من قال: إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولد، فأتاهما إبليس فقال: إن أحببتما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ففعلا.
قال – وهو يذكر أمثلة للاستطراد -:
(فمنها قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}؛ فالنفس الواحدة وزوجها: آدم وحواء، واللذان جعلا له شركاء فيما آتاهما: المشركون من أولادهما.
ولا يلتفت إلى غير ذلك مما قيل: إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولد، فأتاهما إبليس فقال: إن أحببتما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ففعلا ([1])؛ فإن الله سبحانه اجتباه وهداه فلم يكن ليشرك به بعد ذلك.) ([2])
الدراسة:
اعتمد ابن القيم في كلامه السابق قولاً واحداً في المراد بقول الله عز وجل: {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا}، وهو أن المقصودين بالآية المشركون من أولاد آدم وحواء.
وقرر أنه لا يلتفت إلى قول من قال: إن المقصودين بالآية آدم وحواء، وإن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولد، فأتاهما إبليس فقال: إن أحببتما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ففعلا.
وهذان القولان مذكوران في كتب التفسير، وهما مأثوران عن السلف في تفسير الآية.
فالقول الأول – وهو أن المراد: المشركون من ذرية آدم وحواء – مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ([3])، وهو قول الحسن. ([4])
والقول الثاني – وهو أن المراد آدم وحواء – مروي عن ابن عباس ([5])، وقتادة ([6])، ومجاهد ([7])، وغيرهم. وهو قول الجمهور. ([8])
وفي الآية قول ثالث، وهو أن المراد بالنفس في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الجنس؛ أي: خلقكم من جنس واحد، وخلق من هذا الجنس زوجه، ولم يجعلها من جنس آخر. وعلى هذا القول لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية. ([9])
وقد ذكر ابن جرير القولين الأولين، ورجح القول الثاني، وعلل ذلك بإجماع الحجة من أهل التأويل عليه، وذكر أن الشرك الذي وقعا فيه شرك في التسمية، لا في العبادة.
ولمّا كان هذا لا يستقيم مع ختم الآية بقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قرر أنّ هذا الختم كلامٌ مستأنف، وأن الكلام عن آدم وزوجه قد انقضى عند قوله: {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا}.
وأشار ابن عطية في تفسيره لهذه الآيات إلى الأقوال الثلاثة، ولم يصرح بترجيح أو اختيار لأي منها، إلا أن سياق كلامه يدل على ميله للقول الأول الذي رجحه ابن القيم؛ وذلك أنه يقرر في ثنايا تفسيره للآيات التي وردت في السياق أنها لا تتسق، ويروق نظمها، ويتناصر معناها إلا على هذا التأويل.
كما أنه حكم على حمل ابن جرير لقول الله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} على الاستئناف بأنه تحكم لا يساعده اللفظ. ([11])
وحكم الرازي على القول الثاني بالفساد، وذكر وجوهاً ستة تدل على ذلك، وأوضحها اثنان:
الأول: قول الله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة.
الثاني: أنه تعالى قال بعده: ? أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ? (الأعراف: 191)، وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
وبعد ذكره لهذه الوجوه الستة قال: (إذا عرفت هذا فنقول: في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد)، ثم ذكر ثلاثة تأويلات:
¥