وممن اعتمد القول الأول كذلك: ابن العربي؛ فقد ضعف القول الثاني، وجعل الروايات التي بني عليها من الإسرائيليات التي لا ثبات لها، ولا معول عليها. ثم نص على أن القول الأول (أشبه بالحق , وأقرب إلى الصدق , وهو ظاهر الآية وعمومها الذي يشمل جميع متناولاتها , ويسلم فيها الأنبياء عن النقص الذي لا يليق بجهال البشر , فكيف بسادتهم وأنبيائهم.) ([18])
ورجحه كذلك الشنقيطي لدلالة القرآن عليه. ([19])
وممن وافق ابنَ جرير في ترجيح القول الثاني: السيوطي؛ فقد قرر في أكثر من موضع أن الآية في قصة آدم وحواء كما يدل عليه السياق، واستشهد لذلك بحديث الحسن عن سمرة السابق، وهو يرى أنه حديث صحيح، وله شاهد عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح.
قال: (وقد توقف جماعة في ذلك لقوله في آخر الآية: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، والأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة وبعدها إجماعاً فألجأهم ذلك إلى حمل الآية على بعض مشركي العرب وزوجه، وإلى القدح في الحديث. وهذا كله قصور منهم؛ فإن حمل الآية على غير آدم وحواء مناف لأولها كل المنافاة، والقدح في الأحاديث الصحيحة لا يليق بأهل المعرفة.)
ثم وافق ابن جرير في التخلص من هذا الإشكال بجعل آخر الآية مفصولاً عما قبله، وأنه تخلص إلى قصة مشركي العرب، ويدل على ذلك ما بعدها من الآيات.
ثم ذكر روايات تدل على ذلك أخرجها ابن أبي حاتم عن السدي. ([20])
قال: (وبهذا التقرير انحلت هذه العقدة، وانجلت هذه المعضلة. ويوضح ذلك تغيير الضمير إلى الجمع بعد التثنية، ولو كانت القصة واحدة لقال: "عما يشركان"، كقوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا}، {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا} فما غيّر الأسلوب إلا لنكتة، وهي اختلاف المخبر عنه.) ([21])
ووافقهما الآلوسي كذلك، وختم تفسيره للآيات – بعد نقاشات طويلة – بقوله: (وحملُ {فَتَعَالَى اللَّهُ} إلخ على الابتداء مما يستدعيه السباق والسياق، وبه صرح كثير من أساطين الإسلام، والذاهبون إلى غير هذا الوجه نزر قليل بالنسبة إلى الذاهبين إليه وهم دونهم أيضاً في العلم والفضل ... ؛ ومن هنا قال العلامة الطيبي ([22]): إن هذا القول أحسن الأقوال، بل لا قول غيره ولا معول إلا عليه؛ لأنه مقتبس من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة r ، وأنت قد علمت مني أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأراه قد صح، ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري في ميدان التأويل كما جرى غيره. والله تعالى الموفق للصواب.) ([23])
وأما القول الثالث – وهو أن المراد الجنس، لا آدم وحواء –؛ فقد رجحه ابن المنير، وقال تعليقاً على ما أورده الزمخشري في تفسيره: (وأسلم من هذين التفسيرين ([24])، وأقرب – والله أعلم – أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معين. وكأن المعنى - والله تعالى أعلم -: هو الذي خلقكم جنساً واحداً، وجعل أزواجكم منكم أيضاً لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنسَ الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت؛ وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون لأن المشركين منهم، فجاز أن يضاف الكلام إلى الجنس على طريقة: "قتل بنو تميم فلاناً"، وإنما قتله بعضهم. ومثله قوله تعالى: ? وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ? (مريم:66)، و ? قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ? (عبس:17) إلى غير ذلك.) ([25])
ورجح هذا القولَ أيضاً ابنُ عثيمين، وذكر أن ّمن تأمل الآية وجدها دالة على هذا القول، وليس فيها تعرض لآدم وحواء بوجه من الوجوه. وأكّد أن هذا القول جار على الأسلوب العربي الفصيح الذي له نظير في القرآن، كقوله تعالى: ? لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ? (آل عمران: من الآية164)، أي: من جنسهم. قال رحمه الله: (وبهذا التفسير الواضح البيّن يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة.)
وذكر أن للقول الأول الذي اعتمده ابن القيم وجهاً من جهة المعنى، وفيه تنزيه لآدم وحواء عن الشرك؛ غير أن فيه شيئاً من الركاكة لتشتت الضمائر. ([26])
النتيجة:
¥