رابعاً: استدلالهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه " نحن أحق بالشك من إبراهيم " لا يستقيم لهم فقد ذكر الحافظ ابن كثير أن لفظة الشك الواردة فيه لا تفهم على ظاهرها فقال في ذلك: (ليس المراد ههنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف) ().
ولو فهم الحديث على ظاهره لكان النبي صلى الله عليه وسلم شاكاً أيضاً- معاذ الله – وقد فسر العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم)) وبينوا المراد منه.
قال النووي: (اختلف أهل العلم في معنى " نحن أحق بالشك من إبراهيم " على أقوال كثيرة: أحسنها وأصحها ... أن الشك مستحيل في حق إبراهيم، فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك) ().
فالحديث فيه نفي الشك عنهما عليهما الصلاة والسلام، وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع،والهضم من النفس، وكذلك قوله: " لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي "،وفيها الإعلام أن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تعرض من جهة الشك،ولكن من قبل زيادة العلم بالعيان، فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيد الاستدلال ().
وقال ابن ظفر: حسم بكلمته صلى الله عليه وسلم ترامي الظنون إلى إبراهيم عليه السلام حينما سأل ربه عز وجل أن يريه كيف يحي الموتى لشك طرأ عليه،وعرف سامعيه ومن بلغه كلامه، أنهم متى ظنوا ذلك كانوا أولى بالشك من إبراهيم، وأحصر من هذا أن يقال: هو كقولك لمن زعم أنك لمته نحن أولى باللوم منك،فهو أبلغ من قولك لم نلمك ().
وقيل لما نزلت هذه الآية قال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا القول تواضعا منه،وتقديما لإبراهيم على نفسه ().
وأورد الحافظ في الفتح أن المراد ما جرت به العادة في المخاطبة لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئاً قال: مهما أردت أن تقوله لفلان فقله لي، ومقصوده لا تقل ذلك ().
فقوله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم)) معناه: أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم ().
وقيل المراد بالحديث: أمته صلى الله عليه وسلم الذين يجوز عليهم الشك ()، وخروجه منها بدلالة العصمة له عن ذلك ().
وقيل المعنى: هذا الذي ترون أنه شك أنا أولى به، لأنه ليس بشك،إنما هو طلب لمزيد البيان ().
وجاء في كتاب الفصل لابن حزم (هذا الحديث حجة لنا على نفي الشك عن إبراهيم، أي لو كان الكلام من إبراهيم عليه السلام شكاً لكان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم عليه السلام أحق بالشك،فإذا كان من لم يشاهد من القدرة ما شاهد إبراهيم غير شاك، فإبراهيم عليه السلام أبعد من الشك) ().
وقال الحافظ ابن حجر: (حكى بعض علماء العربية أن أفعل ربما جاءت لنفي المعنى عن الشيئين، نحو قوله تعالى: {أهم خير أم قوم تبع} الآية ()، أي لا خير في الفريقين، ونحو قول القائل: الشيطان خير من فلان أي لا خير فيهما، فعلى هذا معنى قوله: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " لا شك عندنا جميعاً) ().
وبما ذكر يتبين أن ما استدل به أصحاب هذا القول مردود لا يسلم لهم.
المبحث الثاني:
حجة من ينفي الشك عن الخليل عليه السلام.
مر في المبحث السابق أدلة من يقول سؤال الخليل عليه السلام كان عن شك، وفي هذا المبحث سنتناول أدلة من ينفى الشك عن الخليل ويجعل السؤال الذي صدر منه عليه السلام من أجل المعاينة ()، وتلك الأدلة هي:
1 - أن قوله: {كيف تحي الموتى} سؤال عن كيفية الإحياء وصورته وليس عن وقوعه.
قال ابن عطية: (وإذا تأملت سؤاله عليه السلام، وسائر ألفاظ الآية، لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت: كيف ثوبك، وكيف زيد فإنما السؤال عن حال من أحواله ... وقد تكون " كيف " خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه " بكيف "، نحو قولك: كيف شئت فكن) ().
ومما يدل على أنه لم يسأل لشك أنه قال: {أرني كيف تحيي الموتى} وما قال هل تحيي الموتى ().
¥