وليست القصص كالفروض، لأن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنفذ إلى كل قوم بما فرضه الله عليهم من الصلاة، وعددها وأوقاتها، والزكاة وسنتها، وصوم شهر رمضان وحج البيت، وهذا ما لاتعرف كيفيته من الكتاب، ولم تكن تنفذ بقصة موسى وعيسى ونوح وغيرهم من الانبياء، وكان هذا في صدر الإسلام قبل إكمال الله الدين، فلما نشره الله عزوجل في كل قطر، وبثّه في آفاق الأرض، وعلّم الأكابر الأصاغر، وجمع القرآن بين الدفتين: زال هذا المعنى، واجتمعت الأنباء في كل مصر، وعند كل قوم).
وقد أخبر الله عزوجل بالسبب الذي من أجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن، فقال سبحانه: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكّرون) وقال تعالى: (وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً).
والآن نستمع لعالم آخر هو الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ فلقد أشار في كتابه البرهان إلى التكرار في معاني القرآن بعامة، وإلى التكرار في القصة بخاصة، فبعد أن بيّن أنّ التكرار أسلوب من أساليب العرب، وأنّ الكلام حينما يكرر فإنه في النفوس يقرر، وعاب على الذين ينكرونه عرّفه بقوله: (وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنىً، خشية تناسي الأول لطول العهد به، فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه كقوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه) (الزمر: 11 ـ 15).
فأعاد قوله: (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) بعد قوله: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) لا لتقرير الأول، بل لغرض آخر، لأن معني الأول: الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيه، ومعنى الثاني: أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص ... واعلم انه إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل، أما إذا وافق الأصل فلا، ولهذا لايتجه سؤالهم: لم كرر (إياك) في قوله (إياك نعبد وإياك نستعين).
إن القصة الواحدة من هذه القصص، كقصة موسى مع فرعون ـ وإن ظنّ انّها لاتغاير الأخرى ـ فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فإن كل واحدة لابد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد منه، لايوقف عليه إلا منها دون غيرها، فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متكررة فيها، ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة، من انفراد كل قصة منها بموضع، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة، فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدة معان عجيبة.
والتكرار ـ كما نراه ـ هو إعادة اللفظ نفسه في سياق واحد، ولمعنى واحد، فإذا لم يتوفر هذان الشرطان، أي إذا لم يكن المعاد اللفظ نفسه، أو إذا ذكر اللفظ أكثر من مرة ولكن لكل موضع سياقه الخاص ومعناه الخاص، فإنّ ذلك لانسميه تكراراً أبداً. هذا هو التعريف الدقيق للتكرار كما يظهر لنا.
وقد أجمعوا على أن لا تكرار في آيات الأحكام، وإنما الذي يمكن أن يكون فيه تكرار، هما الموضوعان الأخيران آيات العقيدة والقصص. هذا من حيث الموضوع.
أما من حيث اللفظ، فقد قالوا: إن هناك جملاً أو آيات ذكرت أكثر من مرة، مما يوجب القول بأنها مكررة. فالتكرار عند هؤلاء هو أن يذكر الموضوع، أو الجملة أو الآية أكثر من مرة، ولسنا معهم في هذا التعريف. والذي يهمنا هنا موضوع القصة، أما الموضوعان الآخران، وهما: آيات العقيدة، والتكرار في الألفاظ، فقد ضمناها كتابنا (نظرات في إعجاز القرآن).
القصص القرآني صدق كله لاينبغي أن يرتاب فيه مرتاب، لأنه إنما ذكر في هذا الكتاب الذي لاريب فيه: قال تعالى: (ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)، (نحن نقصُّ عليك نبأهم بالحقّ) ليس إذن كما ادعى المتخيلون الذين رأوا أن عنصر الواقعية، ليس من الضروري أن يتحقق في هذا القصص، وكذلك لاينبغي أن نعدل بالقصص القرآني عن ظاهره فنحمله على التمثيل، فنحن لانهرع إلى التمثيل إذا كان الحمل على الظاهر ممكناً. فالقصص القرآني واقعي من جهة، ولا يجوز أن يحمل على غير ظاهره من جهة أخرى.
¥