أُغْلِي السِّباءَ بِكُلِّ أَرْكَنَ عاتِقٍ ** أَوْجَوْنةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتامُها (38)
قُدحت أي غُرفت، وفُضَّ ختامها: فتح رأسها، وإنما تُغرف بعد أن تُفتح.
وأما القياس فما يلي:
الأول: أن الواو في الاسمين المختلفين بإزاء التثنية في الاسمين المتفقين، فيقال: جاء الزيدان، أما إذا اختلفت الأسماء فإنه يقال: جاء زيد وعمرو، ولا تمكن التثنية، فعطفوا بالواو، فكما أنه إذا قيل: جاء الزيدان لم يكن اللفظ دالاً على تقدم أحدهما، بل كان مقتضاه اجتماعهما في الفعل فقط، فكذلك العطف بالواو إذا لم تمكن التثنية، لاختلاف الاسمين (39).
الثاني: أنهم استعملوها في مواضع لا يُتصور فيها الترتيب، نحو: اشترَك زيد وعمرو، واختصم بكر وخالد، لأن التفاعل لابد له من فاعلين، ولا يكون من واحد، ولو كانت الواو للترتيب لجاز: اختصم بكر، واشترك زيد. قال أبو علي الفارسي: " ولو قلته بالفاء أو بثم لجعلت الاختصا والاشتراك من واحد " (40).
ومن هذه المواضع: المال بين زيد وعمرو، و: جاء زيد اليومَ وعمرو أمسِ، و: جاء زيد وعمرو معاً، و: جاء زيد وعمرو بعدَه (41).
الثالث: أن الفاء للترتيب بلا خلاف، ولو كانت الواو للترتيب لكان هذا اشتراكاً، لأنه يكون للمعنى الواحد حرفان، وأحدهما يغني عن الآخر. وإذا جعلنا الواو تفيد الترتيب فقد سَلَبْنا الجمع الحرف الدالَّ عليه، ولابد من حرف يدل على الجمع (42).
واحتج المثبتون للترتيب بما يلي:
أولاً: أنه وردت آيات جرى فيها الترتيب بين المتعاطفات، كقوله تعالى: (إذا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزالَها. وأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَها) (43)، وإخراج الأثقال بعد الزلزال. وكقوله تعالى: (يا أَيُّها الذِيْنَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدوا واعْبُدوا رَبَّكُمْ) (44).والركوع قبل السجود.
ثانياً: لما نزل قوله تعالى: (إنّ الصَّفا والمَرْوة مِنْ شعائر الله) (45)، قال الصحابة: بم نبدأ يا رسول الله؟ فقال: " ابْدَأُوا بِما بَدَأَ اللهُ بِذِكْرِه " (46)، فدل ذلك على الترتيب (47).
ثالثاً: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أمر بتقديم العمرة، فقال الصحابة: لِمَ تأمرنا بتقديم العمرة، وقد قدم الله الحج عليها في التنزيل (48)؟ فدل إنكارهم على ابن عباس أنهم فهموا الترتيب من الواو (49).
رابعاً: أن رجلاً خطب عند النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقال: " من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غَوَى " فقال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " بئس الخطيب أنت. قل: ومن يعص الله ورسوله " (50)، ولو كانت الواو لمطلق الجمع لما وقع الفرق (51).
خامساً: أن سُحَيْماً (52) عَبْدَ بني الحِسْحاس (53) أنشد عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:
عُمَيْرةَ ودِّعْ إن تجهَّزتَ غاديا ** كفى الشَّيْبُ والإسلامُ لِلْمَرْءِ ناهيا (54)
فقال عمر: لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأَجزْتُك. فدل إنكار عمر على أن التأخير في اللفظ يدل على التأخير في المرتبة (55).
وأجاب الجمهور (56) عما استدل به المثبتون بما يلي:
أن آية الزلزلة فُهم منها أن زلزال الأرض قبل إخراجها أثقالها من طريق المعنى، وآية الحج لم يأت الترتيب فيها بين الركوع والسجود من الواو في الآية، ولكن من قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (57). وكان - عليه الصلاة والسلام- قد رتَّب الركوع والسجود في صلاته.
وأما أمر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بتقديم الصفا من الآية فإنه دليل عليهم، إذ لو كانت الواو تفيد الترتيب لفهم الصحابة ذلك من غير سؤال، لأنهم كانوا عرباً فصحاء، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بيَّن المراد، لما في الواو من الإجمال. وأيضاً، لو كانت الواو للترتيب لكانت فائدة قوله: " ابدأوا بما بدأ الله بذكره " التأكيد، ولو كانت للجمع لكانت فائدته التأسيس، والتأسيس أولى.
وأما إنكار الجماعة على ابن عباس فإنه، مع فضله، أمر بتقديم العمرة، ولو كانت الواو للترتيب لما خالف، فمستنده أن الواو للجمع وقد رتب.
¥