وهؤلاء الأئمة السبعة الذين تلقت العامة قراءتهم بالقبول، قد يرد عنهم حروف مفردة لم يقبلها العلماء، وهي خارج القراءة العامة التي أقرأ بها الإمام منهم، لذا لا يُعدُّ كل ما روي عنهم في درجة واحدة من القبول، بل ما كان معروفًا بالنقل من الطرق المعتبرة عند أهل هذا الشأن.
وإنما أُشير لهذا ليُعلم أنَّ الحكم بقبول قراءتهم إنما هو فيما اختاروه وأقرءوا به العامة وانتشر، دون تلك الأفراد التي لا يخلو منها إمام منهم.
وإذا تأملت ما ذكره هؤلاء العلماء من أسانيد القراءة وجدتها تقف عند هؤلاء السبعة، فهي في حقيقتها أفراد، لكن لما تلقتها الأمة بالقبول فإنها صارت قراءة مستفيضة مشهورة، وهذا لو كان هو الضابط بدل التواتر لكان، لكن للفظ التواتر سلطان يحتاج إلى تحريرٍ.
ولعلك على خُبرٍ بنِزاع ـ ليس هذا محلُّه ـ وهو ما المتواتر من السبعة، هل هو أفراد القراءات أم مجموعها؟ وهذا من الموضوعات التي تحتاج إلى تنبيه ليتبصَّر به من يكتب في موضوع تواتر القراءات.
وإنه ليس من شكٍّ اليوم بصحة ما تلقته الأمة من كتاب ربها وقرأته على مرِّ العصور بقراءتها العشر التي تلقتها بالقبول جيلاً عن جيلٍ، ولا أودُّ أن يُفهم طرح هذه المسألة للنقاش أن في الأمر شكًّا في تواتر القراءات اليوم، وإنما المراد النظر إلى القراءات في كلِ جيل، والاعتذار لما وقع من بعض العلماء العارفين من ردِّ بعض القراءات، وأنهم إنما ردُّوها بأسلوبٍ علميٍّ مناسب لما تلقوه من القراءات، وليس عن هوى أو جهلٍ منهم.
ولا يصلح اليوم الاستدلال بردِّ هؤلاء العلماء للقراءات اليوم بعد قيام الحجة بقبولها واعتماد تواترها بعد تسبيعها أو تعشيرها.
والأمر أطول مما صورته لك هنا، أسأل الله أن يوفق من يكتب فيه كتابة مستفيضة تجلِّي غامضه، وتبيِّن طرائق العلماء في كلِّ عصر في تلقي القراءة، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه.
الثاني: هل ثبت أن ابن جرير أثبت تواتر قراءة ثمَّ أنكرها، فإن كان ثبت ذلك، فهنا الملامة تقع، والإنكار عليه يصح.
لكن الأمر بخلاف ذلك، فما ردَّه أو اعترض عليه لم يكن مما ثبتت استفاضته وشهرته عنده، بل هو عنده في حكم الشاذ الذي لا يُعترضُ به على المستفيض من القراءة.
ومن عباراته في هذا المقام ـ وهي كثيرة:
1 ـ (وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط، فغير جائز الاعتراض به على الحجة) تحقيق شاكر 16: 4.
2 ـ (الحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم = كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم) تحقيق شاكر 9: 566.
ولأضرب لك مثالاً تطبيقيًّا ناقش فيه ابن جرير قراءة حُكِمَ عليها بالتواتر بعده، فقد أورد في قوله تعالى: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:36).
قال: ((واختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة القراء: (وَضَعَتْ)، خبرًا من الله ـ عز وجل ـ عن نفسه أنه العالم بما وضعت من غير قِيلِها: (رب إني وضعتها أنثى).
وقرأ ذلك بعض المتقدمين: (والله أعلم بما وضعتُ)، على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة: والله أعلم ـ بما ولدت ـ مِنِّي.
وأولى القراءتين بالصواب: ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها، وذلك قراءة من قرأ: (والله أعلم بما وضعتْ)، ولا يُعْتَرَضُ بالشاذِّ عنها عليها)) تفسير الطبري، تحقيق د/ عبد الله التركي (5: 336).
والقراءة التي اختارها هي قراءة نافع وابن كثير وحفص عن عاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي.
والقراءة التي حكم عليها بالشذوذ هي قراءة أبي بكر عن عاصم وابن عامر.
¥