[النحل: 44] فنقل معاني القرآن عنه صلى الله عليه وسلم كنقل ألفاظه سواء، بدليل قوله - تعالى -:] وما على الرسول إلا البلاغ المبين [[النور: 54]، 0 (وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات البيان) [10].
قال ابن تيمية وابن القيم: (والصحابة - رضي الله عنهم - أخذوا عن
الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعناه) [11].
وهكذا تلقى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا القرآن لفظاً ومعنى، وكان
التعلم والتعليم عندهم مبناهما على التفقه في القرآن دون سواه.
ذكر الحافظ ابن كثير عن الضحاك فقال: (قال الضحاك في قوله - تعالى -:] كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [[آل عمران: 79]
قال: (حقٌّ على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً) ومعنى تَعْلَمون: تفهمون
معناه، وقرئ: تعلمون بالتشديد من التعليم وبما كنتم تدرسون تحفظون ألفاظه، والجمع بين القراءتين متعيَّن، فكانوا يَعْلَمونه ويُعلِّمونه ولا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم [12].
قال الرازي: (ودلّت الآية على أن العلمَ والتعليم والدراسة توجب كون
الإنسان ربانياً؛ فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيُه وخاب عملُه) [13].
ونقل هذا المعنى رشيد رضا وقال: (فبعلم الكتاب ودراسته وتعليمه للناس
ونشره والعمل به يكون الإنسان ربانياً مَرضِيّاً عند الله) [14]. هكذا كان دأبُ
الصحابة - رضي الله عنهم كما ذكره ابن القيم فقال: (ولم يكن للصحابة كتابٌ
يدرسونه وكلامٌ محفوظ يتفقهون فيه إلاَّ القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه
وسلم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك) [15].
فكان القرآن عندهم هو العلمُ الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً.
وقد فسر حَبْرُ الأمة ابن عباس الحكمة بفهم القرآن وفقه ما فيه من علوم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله - تعالى -:] يؤتي الحكمة من يشاء
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [[البقرة: 269] قال: (المعرفة بالقرآن:
ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه،
وأمثاله) [16].
وفسرها الحافظ ابن كثير بالسنة وعزا ذلك إلى غير واحد من السلف وهو ما
أُخِذَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم:
(ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) [17].
ونزع ابن عباس في تفسيره للحكمة إلى المعرفة بالقرآن وفقه ما فيه من
العلوم، وهو من أوسع التفسيرات، وهو لا ينافي من فسّر الحكمة بالسنة؛ لأن بها
يحصل بيانُ القرآن وفهمُه وفقهُه؛ فهي المفسّرة والمبيّنة للقرآن، وتعني - من بين
ما تعنيه - الفقه والفهم، يدلّ على ذلك قوله - تعالى -:] وآتيناه الحكمة وفصل
الخطاب [[ص: 20].
قال مجاهد: (يعني الفهم والعقل والفطنة) [18] ومن أعطاه الله ويسّر له فقه
القرآن وعلومَه والعمل به فقد حاز فضلاً عظيماً وخيراً جزيلاً.
قال القرطبي: (إن من أُعْطِيَ الحكمة والقرآن فقد أُعطي أفضل مما أُعطي
مَنْ جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها) [19].
فكتاب الله حكمة، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم حكمة، وأصل الحكمة ما
يُمتنَع به من السفه، ومن ثَمَّ اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب:] ويعلمهم
الكتاب والحكمة [[البقرة: 129] وقد حث الله - عز وجل - على التدبر
والاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ فقال:] كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا
آياته وليتذكر أولوا الألباب [[ص: 29]، وقال:] أفلا يتدبرون القرآن أم على
قلوب أقفالها [[محمد: 24]، وقال:] ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل
مثل لعلهم يتذكرون [[الزمر: 27] ففي مثل الآيات ونحوها دليل على وجوب
معرفة معاني القرآن والاتعاظ بمواعظه وفقه ما فيه من الهداية والرشاد، ولا يقال
لمن لا يفهم تفسيره: اعتبر بما لا فهم لك به، ولا يقال ذلك إلا لمن كان بمعاني
القرآن بصيراً وبكلام العرب عارفاً [20].
وأقول: وتدبر القرآن مرحلة تالية لمرحلة الفهم، ولا يمكن أن يتأتى التدبر
لمن لم يفهم معاني القرآن.
قال القرطبي: (وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل
على أن الترتيل أفضل من الهذّ؛ إذ لا يصحّ التدبر مع الهذّ) وقد شكا رسول الله
¥