تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه للقرآن فقال:] وقال الرسول يا رب

إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [[الفرقان: 30].

وهجر التفسير والفهم والتدبر نوع من أنواع هجره. قال ابن القيم وابن كثير: (ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه،

وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى

غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من

هجرانه) [21].

قال ابن تيمية: (وأما في باب فهم القرآن فهو {أي: قارئ القرآن} دائم

التفكر والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس،

وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية

قَبِلَهُ وإلا ردّه) [22].

ويشهد لما تقدم ما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري حيث قال: (والله

ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كلَّه ما

يُرى له في خُلُقٍ ولا عملٍ) [23].

فكلام ابن كثير يدل على أن انصراف الطلاب إلى طلب العلم في غير القرآن

نوع من أنواع هجره، وكلام شيخ الإسلام يدل على أن الواجب على الطلاب أن

يستغنوا بمعاني القرآن وأحكامه عن غيره من كلام البشر، ويدل لهذا ما ذكر ابن

أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: لو طلبتم

كتاب الله لوجدتم فيه شفاءاً لما تريدون، فقالوا: تعلمنا القرآن، فقال: إن في

تعلُّمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم، قالوا: كيف يا أبا علي؟ قال: (لن

تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه - تفسيره وبيانه - ومحكمه ومتشابهه وناسخه

ومنسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة) [24].

فهذا فضيل بن عياض اعتبر التفقه في غير القرآن شغلاً لا طائل من ورائه،

ثم هو يصحّح لهؤلاء الطلاب التوجهات الصحيحة لطلب العلم في زمنه ويردهم إلى

طلب التفقه في القرآن نفسه.

وهكذا كان بعض السلف يقدمون القرآن وعلومه وتفسيره على أي علم آخر؛

فقد وجد من يمنع طلب علم الحديث وكتابته قبل حفظ القرآن، وكانوا يختبرونهم

في بعض معانيه؛ فهذا عبد الله بن المبارك يختبر من جاء يطلب الحديث عنده في

القرآن وبعض علومه [25].

وذكر ابن عبد البر عن علي قوله: (أعزم على كل من كان عنده كتاب إلاّ

رجع فمحاه؛ فإنما هلك الناس حيث يتبعون أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم)،

وذكر عن عمر: (أن قوماً كانوا يكتبون كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب

ربهم) [26]، نقل ابن القيم عن الإمام البخاري قوله: (كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنةَ نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قياس، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً) [27].

ما أشبه الليلة بالبارحة! والقصة نفسها تتكرر في بعض طلبة هذا الزمن؛ إذ

يهجرون حفظ القرآن وفهمه وتفسيره والتفقه فيه إلى كتب فلان وفلان، وإنك

لتعجب من بعضهم؛ إذ انحرف في الطلب، فتجده لا يحفظ من القرآن إلا قصار

السور ونحوها ولا يفهمها، وتجد له جرأة عجيبة على اقتحام علم الجرح والتعديل

ونحوه؛ فمثل هذا وأمثاله لم يستوعب التصور الصحيح لمنهج التربية والتعليم الذي

رسمه القرآن وبيَّنه.

فليزن طلاب علم هذا الزمن تعليمهم بهذا المنهج الذي رسمه القرآن وفعله

السلف، ولينظروا أين مكانهم من فهم القرآن والتفقه فيه، وما حظهم من هدايته؟


(1) التفسير الكبير، 6/ 71.
(2) رواه مسلم (2699).
(3) الجامع للقرطبي، 1/ 91.
(4) تفسير ابن كثير، 1/ 175، الرازي 2/ 36.
(5) الجامع للقرطبي، 1/ 92.
(6) تفسير ابن كثير، 1/ 175.
(7) الإتقان، 2/ 389، التفسير الكبير، 2/ 132.
(8) جامع البيان، 1/ 35.
(9) التفسيرالكبير، 2/ 132.
(10) الصواعق المرسلة، 440.
(11) التفسير الكبير، 2/ 104، 253، الصواعق، 440.
(12) ابن كثير، 1/ 405، القرطبي، 2/ 115.
(13) تفسير الرازي، 4/ 123.
(14) تفسير المنار، 3/ 348.
(15) الصواعق المرسلة، 441.
(16) الإتقان، 2/ 385، ابن كثير، ‍1/ 345.
(17) رواه أحمد، ح/ 16546.
(18) تفسير ابن كثير، 4/ 33.
(19) الجامع للقرطبي، 2/ 300.
(20) جامع البيان، 1/ 35.
(21) تفسير ابن كثير، 3/ 349، تفسير ابن القيم، 3/ 292.
(22) التفسير الكبير، 6/ 71.
(23) تفسير ابن كثير، 4/ 36.
(24) الجامع، 1/ 30، فتح القدير، 1/ 14.
(25) المحدث الفاصل، 203.
(26) جامع بيان العلم، 1/ 76، 77.
(27) أفردنا هذا الموضوع في بحث مستقل سبق أن نشرته مجلة البيان في العدد (133).

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير