وكما ذكرنا فإن السورة السابقة نزلت في ذكر الذين كبرت خيانتهم في ولاية الكعبة لما أنهم أفسدوا الحج ومناسكه، وأبطلوا حقيقة الصلاة والنحر بإبطال التوحيد والعدول عن مواساة المساكين، فباؤوا بالويل واللعنة واستحقّوا أن يسلبهم الله هذا الخير ويعطيه من يستحقّه حسب سنّته كما قال تعالى: ((وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) (محمد - صلى الله عليه وسلم -: 38). وكأن الله تعالى ينزع ولاية الكعبة من الفجرة والخائنين.
ففي سورة (الكوثر) بشّر الله نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بأنه اصطفاه وأمته لولاية بيته المحرم، ومسكن خليله وذرّيته التي يبارك بها الأمم. ولا شكّ أن هذا العطاء هو الفوز الأكبر والخير الكوثر وهو الضمان للحوض الكوثر الذي يعطيه الله تعالى في الآخرة. وعلى هذا يكون موقع هذه السورة من التي قبلها كموقع ذكر النعمة بعد النقمة، والعطاء بعد السلب، والمستَخلَفين بعد المهلَكين ..
ذلك ولما كانت السورة التالية (الكافرون) في إعلان الهجرة من جوار هذا البيت حَسُنَ في نظم الكلام أن تُقدَّم عليها سورة التبشير والتسلية ليدلّ القرآن بنظمه ذلك على أن الله تعالى قضى باليسر قبل العسر وإن كان وقوعه بعده. فترى أن إعلان الهجرة الذي تضمّنته سورة (الكافرون) وُضع بين سورتي التبشير، أعني (الكوثر) و (النصر). ثم لما كانت هذه السورة بشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بكثرة أحبائه وبقطع أعدائه عن بركات الكعبة جاءت سورة (الكافرون) بياناً لأصل هذا القطع، وهو البعد عن التوحيد الذي بُني عليه هذا البيت.
ثم جاءت سورتا (النصر) و (المسد)، وهاتان السورتان بمثابة التكملة لقوله تعالى: ((إنا أعطيناك الكوثر))، وقوله تعالى: ((إن شانئك هو الأبتر))، كأنه قيل: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ورأيت عدوّ الله قد تبّ وتبت يداه ورأيت الكفر قد تمزّق وانتقضت عراه، فحينئذ يتحقّق هذا العطاء الإلهي الكريم في أجلى صوره، ويفرض وجوده على الجميع بحيث لا يبقى منكِر على إنكاره، وينكشف أن الأعداء هم الأباتر على عكس ما زعموا. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن إعلان البراءة الذي تتضمّنه سورة (الكافرون) معناه إعلان الهجرة والجهاد. كما جاء ذلك واضحاً في قول إبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام - والذين معه: ((إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدت بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)) (الممتحنة: 4).
وإذا كانت الهجرة وكان الجهاد فلا بد أن ينزل النصر ويأتي الفتح كما قال تعالى: ((إن تنصروا الله ينصركم)) (محمد - صلى الله عليه وسلم -: 7). ((وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشّر المؤمنين)) (الصف: 13). علماً بأن تلك الآية إنما جاءت لتبشّر بما يترتّب عليه الجهاد من جزاء كريم وبلاء عظيم. وإذا جاء النصر فلا بدّ أن يُكسر جناح الشرك ويؤذن له بالتباب، فارتباط هاتين السورتين كالذي في قوله تعالى: ((وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)) (الإسراء: 81).
فلما انتصر الحق وانتكس الباطل وفتحت مكة أبوابها لجنود الإسلام وعادت الكعبة إلى أهلها وأوليائها، وأصبحت - كحالتها يوم أُسّست - مشرقاً للتوحيد وموئلاً للإيمان ومثابة للناس وأمناً، وعاد الحق إلى نصابه وأرزَ الشرك إلى أجحاره، حينئذ ختم على هذه الصحيفة الخالدة بختم التوحيد، وجاء الأمر الإلهي يجلجل في الكون من سورة (الإخلاص):
((قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد)).
فكان هذا إيذاناً برفع لواء التوحيد عالياً خفاقاً، وكان إيذاناً بانتكاس الشرك وانحسار ظله تماماً في البيئة المؤمنة التي رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالقرآن هادياً وإماماً.
ويزيدنا اطمئناناً وركوناً إلى هذا النظام أنه يتّفق تماماً مع تلك الكلمات الخالدة التي نطق بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، إذ قال وهو آخذ بعضادتي باب الكعبة: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده".
فإن "لا إله إلا الله" ناظر إلى سورة (الكافرون)، و "وحده لا شريك له" ناظر إلى سورة (الإخلاص)، و "صدق وعده" ناظر إلى سورة (الكوثر)، و "نصر عبده" ناظر إلى سورة (النصر)، و "هزم الأحزاب وحده" ناظر إلى سورة (المسد).
هذا إجمال القول في المناسبات بين هذه السور التي شكّلت حلقة عجيبة من حلقات الترابط المحكم في نظامها ..
والله تعالى أعلم
المصادر:
الإمام البقاعي:
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
الإمام عبد الحميد الفراهي:
تفسير سورة الكوثر
تفسير سورة اللهب
تفسير سورة النصر
التكميل في أصول التأويل
الزركشي:
البرهان في علوم القرآن