وحقيقة (فخلوا سبيلهم)؛ اتركوا طريقهم الذي يمرون به، أي اتركوا لهم كل طريق أمرتم برصدهم فيه أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قادمين عليكم، إذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين، فإنهم صاروا إخوانكم، كما قال في هذه الآية.
وهذا المركب مستعمل هنا تمثيلا في عدم الإضرار بهم ومتاركتهم، يقال: خل سبيلي، أي دعني وشأني، كما قال جرير::
خل السبيل لمن يبني المنار به ... وأبرز ببرزة حيث اضطرك القدر
وهو مقابل للتمثيل الذي في قوله: واقعدوا لهم كل مرصد ..
وجملة: (إن الله غفور رحيم)؛ تذييل أريد به حث المسلمين على عدم التعرض بالسوء للذين يسلمون من المشركين، وعدم مؤاخذتهم لما فرط منهم، فالمعنى اغفروا لهم، لأن الله غفر لهم وهو غفور رحيم، أو اقتدوا بفعل الله إذ غفر لهم ما فرط منهم كما تعلمون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عما مضى.
*وقد اعتمد الصديق -رضي الله عنه- في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام، والقيام بأداء واجباته.
ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة، التي هي حق الله -عز وجل- وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر، رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " الحديث.
وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله بن المبارك، أنبأنا حميد الطويل، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم ".
ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه، من حديث عبد الله بن المبارك، به.
وفي الختام: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر ذنوبنا، وأن يُصلح أمتنا، وأن يُعيد لنا النصر والتمكين والعزة، وأن يرزقنا فَهم كتابه، والعمل بما فيه .. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.