قال الجصاص الحنفي-رحمه الله- في أحكام القرآن (2/ 39):
"فإن قيل: قوله عز وجل: "والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم" يقتضي إباحة وطئهن في الدبر، لورود الإباحة مطلقة غير مقيدة، ولا مخصوصة، قيل له: لما قال الله تعالى: "فأتوهن من حيث أمركم الله "، ثم قال في نسق التلاوة: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، أبان بذلك موضع المأمور به، وهو موضع الحرث، ولم يرد إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد، فهو مقصور عليه دون غيره، وهو قاض مع ذلك على قوله تعالى: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم "،
كما كان حظر وطء الحائض قاضيا على قوله:" إلا على أزواجهم ".
وإذا تقرر ذلك، فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية على الإباحة.
3 - قوله تعالى: " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ".
وجه الاستدلال:
أن الله -عز شأنه- حكى عن لوط عليه السلام أنه قال لقومه في مقام التوبيخ: "وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم "،
وفي الكلام محذوف تقديره: وتذرون مثل ذلك من أزواجكم، فإن قيل: بأن التقدير على خلاف الظاهر، والقاعدة في الأصول: [يجب العمل بالألفاظ على ظاهرها، ولا يجوز العدول عنها إلا بدليل]، فالجواب: أنه لولا هذا التقدير لما صح التوبيخ، فهذا دليل الخروج عن الظاهر.
وليس المباح من الموضع الآخر - أي: قبل المرأة- مثلا له -أي لأدبار الرجال،
فتعين أن المراد أدبار النساء.
ومأخذ الإباحة من قوله: " لكم ":فاللام لام الاختصاص، والقاعدة في الأصول: [أن لام الاختصاص تفيد الإباحة].
: إفادة لام الاختصاص للإباحة دلالة التزام.
انظر: نهاية السول لجمال الدين الأسنوي رحمه الله (2/ 934).
إذا تقرر ذلك، وتقرر أن القاعدة في الأصول-عند جماعة-: [أن شرع من قبلنا شرع لنا]، ففي الآية دليل على إباحة إتيان الزوجة في دبرها.
قال الكيا الهراسي الشافعي -رحمه الله- في أحكام القرآن (1/ 142): "وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا، ويتأول فيه قول الله عز وجل: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)، وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال: تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح ".
وأجيب عن هذا الاستدلال بجوابين:
- أن تقدير (مثل) تأويل لادليل عليه، والقاعدة في الأصول: [لا يجوز التأويل إلا بدليل]، وما ذكروه لا يصلح أن يكون دليلا،
إذ التوبيخ يصح على معنى: وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتكم، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا،
بل هي أبلغ حصولاً في إتيان الزوجة في قبلها.
انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي رحمه الله (1/ 142).
-أن هذا ثابت في شرع من قبلنا، والقاعدة في الأصول: [أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا].
وإذا تقرر ذلك، فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية على الإباحة.
4 - ما أخرجه الإمام النسائي -رحمه الله- في السنن الكبرى عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رجلا أتى امرأته في دبرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد من ذلك وجدا شديدا، فأنزل الله تعالى:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
وتقدم الإشارة إلى وجه الاستدلال به والإجابة عن ذلك فلا حاجة لإعادته.
وبناء على ما سبق فالراجح في المسألة قول الجمهور.
فائدة:
قال موفق الدين ابن قدامة -رحمه الله- في المغني (8/ 132): "ولا بأس بالتلذذ بها بين الأليتين من غير إيلاج؛ لأن السنة إنما وردت بتحريم الدبر، فهو مخصوص بذلك، ولأنه حرم لأجل الأذى، وذلك مخصوص بالدبر فاختص التحريم به".
ـ[د. أبو بكر خليل]ــــــــ[31 Mar 2010, 07:11 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتفرد بالخلق والملك، المتوحد بالتدبير، والصلاة والسلام على خيرة خلقه ومصطفاه منهم، وعلى أهل بيته ومن صحبه، وتابعيهم بإحسان, وبعد:
...
مبحث مهم:
ما الفائدة من معرفة أسباب النزول للفقيه المجتهد الناظر في الدليل القرآني لاستنباط الحكم الشرعي؟
الجواب: لذلك فوائد كثيرة منها:
1 - معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
2 - تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
3 - الوقوف على المعنى الصحيح للآية.
...
4 - عدم جواز تخصيص محل السبب فيما إذا كان نص الآية عاما، لأن دخول السبب في العموم قطعي، ومأخذ قطعيته أمران اثنان:
الأول: أنه يلزم من القول بجواز تخصيصه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا يجوز.
الثاني: أن القول بجواز تخصيصه فيه عدول عن محل السؤال فيما إذا كان السبب سؤالا، وذلك لا يجوز في حق الشارع لئلا يلتبس الحال على السائل.
.................................................. ........................
.
جزاكم الله خيرا
- أحسب - مما نقلتموه - أن هناك تناقضاً بين ما ذُكِر أعلاه في رقم (2) و بين ما ذُكِر في رقم (4)؛ لإنه إذا صحَّ أن دخول السبب في العموم قطعي [كما في (4)]؛ فلا يصحّ القول بتخصيص الحكم به [كما في (2)]؟
- و كذا تكرر القول بأن (مطلق الأمر يدلّ على الوجوب).
وهذا مِن المختلف فيه في علم الأصول
¥