كل الذين عاشروه -بمن فيهم خصومه ومناؤوه- يقرون بخصاله الحميدة، فقد “كان عذب الحديث، رقيق الحاشية، صافي الذهن والقريحة، رضي النفس، سمح الخلق، متواضعا، عازفا عن الشهرة، بعيدا عن الزهو”. ورجل حباه الله بهذه الفضائل فلابد أن يتحلى بالمرونة، ويتقبل الفكرة ويحترمها، وينشد الحقيقة، ويتصالح معها، ويتحرّى الحق ويصطف معه مهما كان مرّاً.
يقول السيد الرضوي: “تعرّفت الى هذا الأستاذ فقد كان مديرا لمكتب وزير الأوقاف العلامة الكبير الشيخ أحمد حسن الباقوري، ودعاني في شهر رمضان، مع جماعة من الأساتذة والعلماء في الوزارة، وكان ذلك في عام 1377هـ/ 1958م .. وفي كل مرة عندما أعود الى القاهرة ألتقي به في داره .. وبعد أعوام صادف مجيئي الى القاهرة في شهر رمضان المبارك، فطرقت باب دار الأستاذ صباحا فرحّب بي كثيرا على عادته، وأدخلني غرفة الاستراحة، ولما أردت الإنصراف قال: “أرغب أن تحضر هذه الليلة للإفطار عندنا”، فلبيت الطلب، وقصدت داره العامرة، وصادف دخولي داره وقت المغرب، ولما دخلت سلّمت وجلست في الغرفة المعدّة للضيوف فحيّاني سيادته وغاب عني دقائق ثم عاد وبيده صحن صغير فيه تمر محشو باللوز، فتناول واحدة وضعها في فيه وتناول ثانية بيده وقدمها لي، وقال:
- تفضل.
فأخذتها من يده وتركتها أمامي على المنضدة.
فقال: افطر، لماذا لا تفطر؟!
قلت: قال الله تعالى: “وأتموا الصيام الى الليل”، فهل يقال لهذا الوقت ليل؟
فأجاب: لا.
قلت: إذن كيف تفطر؟!
ثم قلت: أنظر يا أستاذ الى هذه الحمرة المشرقية ظاهرة ونحن الشيعة الإمامية لا نفطر في هذا الوقت، بل نتأمل دقائق وننتظر حتى تغيب هذه الحمرة، لأن وجودها يدل على عدم غياب قرص الشمس، فإذا زالت الحمرة هذه جاز لنا الإفطار، ونحن نأسف لأخواننا السنيين كيف يمسكون عن الأكل والشراب طول النهار ولا ينتظرون دقائق معدودة حتى تغيب هذه الحمرة!
فأجاب سيادته قائلا: أما أنا فمن الآن معكم، وبعد هذا لا أصيب طعام الإفطار إلا بعد ذهاب الحمرة المشرقية.
هذا الموقف ينمّ عن مدى سماحة الرجل وبعده عن التعصب الذميم، الذي أبتلي به العديدون، فلم يلجأ الى اللجاجة والجدل العقيم لإثبات صحة موقفه، وهكذا نجده يذعن الى المنطق السليم، ولا يتوانى لحظة في الرجوع اليه والإنصياع له.
بهذه الروح الرياضية نراه ينفتح على كل ألوان الطيف الإسلامي، فلا يقف خلف المتاريس الطائفية، ولا يسمح لنفسه أن يتخندق في حدودها الضيقة، بل ينطلق في آفاق المعرفة الرحبة، دونما مواقف متشنجة أو أحكام مسبقة، يحدوه الى تنكّب هذا المنهج -على وعورته- قوله تعالى: “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب”- الزمر:18، وفي هذا السياق لا يتردد في أن يطلب من صديقه الرضوي إرسال تفسير مجمع البيان للطبرسي، وهو من التفاسير القيمة عند الإمامية.
وعلى ما يبدو ان هذا الانفتاح قد أثار عليه حفيظة الأوساط المنغلقة، التي لا تجيد سوى خطاب التكفير وإثارة الفتنة بين صفوف المسلمين، وهو ما نلسمه للأسف في كل ممارساتهم، وفيما يخص الموقف من المفكر المفسّر عبد الكريم الخطيب، يكتب أحد السلفيين ويذكره بعبارات نابية، ويذهب بعيدا حينما يزعم بأنه وقف على كلام منكر للخطيب خالف به إجماع المسلمين، فيما يتعلق بالمهدي والدجّال .. ويواصل هذا السلفي القول: “ثم بلغتني عنه مخالفات أخرى أدرجها في تفسيره للقرآن الكريم .. خالف فيها صريح القرآن الكريم .. الخ”!!، ومن المعلوم إن هذه الإتهامات الجاهزة هي المعزوفة الصدئة التي يرددها التيار السلفي ضد كل من لا يجاريهم!
لم يعبأ العلامة الخطيب بكل ما أثير حوله من غبار، وراح يغذ السير ويحث الخطى في دنيا المعرفة، وقدم العديد من الدراسات والبحوث في مختلف المجالات الدينية، التي تدور حول إعجاز القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، ومفهوم الإلوهية والوحدانية، الى جانب عشرات الأبحاث الأخرى، ومئات المقالات، والعديد من الندوات والأحاديث الإذاعية، مما جعله يعدّ من أشهر الكتّاب المسلمين في وقته.
¥