من القواعد المقررة للنبوة في حياة الانسان الشخصية، التخلق باخلاق الله. أي كونوا عباد الله المخلصين، متحلين باخلاق الله محتمين بحماه معترفين في قرارة انفسكم بعجزكم وفقركم وقصوركم.
فأين هذه القاعدة الجليلة من قول الفلسفة: (تشبهوا بالواجب)! التي تقررها غايةً قصوى للانسانية!
اين ماهية الانسان التي عجنت بالعجز والضعف والفقر والحاجة غير المحدودة من ماهية واجب الوجود، وهو الله القدير القوي الغني المتعال!!
المثال الثاني:
من القواعد الثابتة للنبوة في الحياة الاجتماعية، ان (التعاون) دستور مهيمن على الكون، ابتداءً من الشمس والقمر الى النباتات والحيوانات، فترى النباتات تمد الحيوانات، والحيوانات تمد الانسان، بل ذرات الطعام تمدّ خلايا الجسم وتعاونها.
فأين هذا الدستور القويم دستور التعاون وقانون الكرم وناموس الاكرام من دستور (الصراع) الذي تقول به الفلسفة من انه الحاكم على الحياة الاجتماعية، علماً ان (الصراع) ناشئ فقط لدى بعض الظلمة والوحوش الكاسرة من جراء سوء استعمال فطرتهم، بل أوغلت الفلسفة في ضلالها حتى اتخذت دستور (الصراع) هذا حاكماً مهيمناً على الموجودات كافة، فقررت ببلاهة متناهية: (ان الحياة جدال وصراع).
المثال الثالث:
من النتائج المثلى للنبوة ومن قواعدها السامية في التوحيد، أن (الواحد لا يصدر إلاّ عن الواحد)، أي ان كل مالَه وحدةٌ لا يصدر إلاّ عن الواحد؛ اذ ما دامت في كل شئ، وفي الاشياء كلها، وحدة ظاهرة، فلابد انها من ايجاد ذاتٍ واحدة. بينما دستور الفلسفة القديمة وعقيدتها هو (ان الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد) أي لا يصدر عن ذات واحدة إلاّ شئ واحد، ثم الاشياء الاخرى تصدر بتوسط الوسائط. هذه القاعدة للفلسفة القديمة تعطي للاسباب القائمة والوسائط نوعاً من الشراكة في الربوبية، وتُظهر ان القدير على كل شئ والغني المطلق والمستغني عن كل شئ بحاجة الى وسائط عاجزة! بل ضلوا ضلالاً بعيداً فأطلقوا على الخالق جل وعلا اسم مخلوق وهو (العقل الاول)! وقسّموا سائر ملكه بين الوسائط، ففتحوا الطريق الى شرك عظيم.
فاين ذلك الدستور التوحيدي للنبوة من هذه القاعدة - للفلسفة القديمة السقيمة - الملوثة بالشرك والملطخة بالضلالة؟
فان كان الاشراقيون الذين هم أرقى الفلاسفة والحكماء فهماً يتفوهون بهذا السخف من الكلام، فكيف يكون يا ترى كلام مَن هم دونهم في الفلسفة والحكمة من ماديين وطبيعيين؟.
المثال الرابع:
انه من الدساتير الحكيمة للنبوة، ان لكل شئ حِكَماً كثيرة ومنافع شتى حتى ان للثمرة من الحِكَمِ ما يُعدّ بعدد ثمرات الشجرة، كما تُفهم من الآية الكريمة وان من شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده فان كانت هناك نتيجة واحدة ـ لخلقِ ذي حياةٍ ـ متوجهة الى المخلوق نفسه، وحكمة واحدة من وجوده تعود اليه، فان آلافاً من النتائج تعود الى خالقه الحكيم وآلافاً من الحكم تتوجه الى فاطره الجليل.
أما دستور الفلسفة فهو (ان حكمة خلقِ كلِ كائن حي وفائدته متوجهة الى نفسه، أو تعود الى منافع الانسان ومصالحه)! هذه القاعدة تسلب من الموجودات حِكَماً كثيرة انيطت بها، وتعطي ثمرة جزئية كحبة من خردل الى شجرة ضخمة هائلة، فتحوّل الموجودات الى عبث لاطائل من ورائه.
فاين تلك الحكمة الصائبة من هذه القواعد الفاسدة للفلسفة ـ الفارغة من الحكمة ـ التي تصبغ الوجود كله بالعبث!.
ولقد قصرنا الكلام هنا على هذا القدر، حيث اننا قد بحثنا هذه الحقيقة في الحقيقة العاشرة من الكلمة العاشرة بشئ من التفصيل.
وبعد .. فيمكنك ان تقيس على منوال هذه الامثلة الاربعة آلافاً من النماذج والأمثلة وقد أشرنا الى قسمٍ منها في رسالة (اللوامع).
ونظراً لاستناد الفلسفة الى مثل هذه الاسس السقيمة ولنتائجها الوخيمة
فان فلاسفة الاسلام الدهاة، الذين غرّهم مظهر الفلسفة البراق، فانساقوا الى طريقها كابن سينا والفارابي، لم ينالوا إلاّ أدنى درجة الايمان، درجة المؤمن العادي، بل لم يمنحهم حجة الاسلام الامام الغزالي حتى تلك الدرجة.
وكذا ائمة المعتزلة، وهم من علماء الكلام المتبحرين،
فلأنهم افتتنوا بالفلسفة وزينتها واوثقوا صلتهم بها، وحكّموا العقل، لم يظفروا بسوى درجة المؤمن المبتدع الفاسق.
¥