وكذا ابو العلاء المعري الذي هو من أعلام ادباء المسلمين والمعروف بتشاؤمه، وعمر الخيام الموصوف بنحيبه اليتمي، وامثالهما من الادباء الاعلام ممن استهوتهم الفلسفة، وانبهرت نفوسهم الامارة بها .. فهؤلاء .. قد تلقوا صفعة تأديب ولطمة تحقير وتكفير من قبل اهل الحقيقة والكمال، فزجروهم قائلين: (ايها السفهاء انتم تمارسون السفه وسوء الادب، وتسلكون سبيل الزندقة، وتربّون الزنادقة في احضان أدبكم!).
ثم ان من نتائج الاسس الفاسدة للفلسفة:
ان (انا) الذي ليس له في ذاته إلاّ ماهية ضعيفة كأنه هواء أو بخار، لكن بشؤم نظر الفلسفة، ورؤيتها الاشياء بالمعنى الاسمي، يتميع ..
ثم بسبب الأُلفة والتوغل في الماديات والشهوات كأنه يتصلب ..
ثم تعتريه الغفلة والإنكار فتتجمد تلك (الانانية) ..
ثم بالعصيان ـ لاوامر الله ـ يتكدر (أنا) ويفقد شفافيته ويصبح قاتماً ..
ثم يستغلظ شيئاً فشيئاً
حتى يبتلع صاحبه ..
بل لا يقف (أنا) عند هذا الحد وانما ينتفخ ويتوسع بافكار الانسان ويبدأ بقياس الناس، وحتى الاسباب، على نفسه، فيمنحها فرعونية طاغية ـ رغم رفضها واستعاذتها منها ـ
وعند ذلك يأخذ طور الخصم للاوامر الإلهية فيقول:
] من يحي العظام وهي رميم [
وكأنه يتحدى الله عزوجل، ويتهم القدير على كل شئ بالعجز ..
ثم يبلغ به الأمر ان يتدخل في اوصاف الله الجليلة، فينكر أو يحرّف أو يردّ كل ما لا يلائم هواه، أو لا تعجب فرعونيةَ نفسه .. فمثلاً:
اطلقت طائفة من الفلاسفة على الله سبحانه وتعالى: اسم (الموجب بالذات) فنفوا الارادة والاختيار منه تعالى، مكذّبين شهادة جميع الكون على ارادته الطليقة.
فيا سبحان الله! ما اعجب هذا الانسان!
ان الموجودات قاطبةً من الذرات الى الشموس لتدل دلالة واضحة على ارادة الخالق الحكيم؛ بتعيّناتها، وانتظامها، وحِكَمها، وموازينها، كيف لا تراها عينُ الفلسفة؟ أعمى الله أبصارهم!
وادّعت طائفة اخرى من الفلاسفة: (ان العلم الإلهي لا يتعلق بالجزئيات) نافين إحاطة علم الله سبحانه بكل شئ، رافضين شهادة الموجودات الصادقة على علمه المحيط بكل شئ.
ثم ان الفلسفة تمنح التأثير للأسباب، وتعطي بيد الطبيعة الايجاد والابداع، فلا ترى الآيات المتلألئة على كل موجود، الدالة على الخالق العظيم ـ كما اثبتناه في (الكلمة الثانية والعشرين) ـ فضلاً عن انها
تسند خلق قسم من الموجودات ـ التي هي مكاتيب إلهية صمدانية ـ الى الطبيعة العاجزة الجامدة الفاقدة للشعور، والتي ليست في يديها إلاّ المصادفة العشواء والقوة العمياء، جاعلة لها ـ أي للطبيعة ــ مصدرية في خلق الاشياء، وفاعلية في التأثير! فحجبت آلاف الحِكم المندرجة في الموجودات.
ثم ان الفلسفة لم تهتد الى باب الآخرة الواسع، فانكرت الحشر وادّعت أزلية الارواح، علماً ان الله عز وجل بجميع اسمائه الحسنى، والكون بجميع حقائقه والانبياء والرسل الكرام عليهم السلام بجميع ما جاءوا من الحقائق، والكتب السماوية بجميع آياتها الكريمة .. تبيّن الحشر والآخرة، كما اثبتناه في الكلمة العاشرة (الحشر).
وهكذا يمكنك ان تقيس سائر مسائل الفلسفة على هذه الخرافات السخيفة.
أجل! لكأن الشياطين اختطفوا عقول الفلاسفة الملحدين بمنقار " أنا " ومخاليبه وألقوها في أودية الضلالة، ومزقوها شر ممزق.
فـ (أنا) في العالم الصغير ـ الانسان ـ كالطبيعة في العالم الكبير،
كلاهما من الطواغيت:
] فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم [.
* * *
ولقد رأيت حادثة مثالية قبل الشروع بتأليف هذه الرسالة بثماني سنوات، عندما كنت في استانبول شهر رمضان المبارك، وكان آنئذٍ سعيد القديم ـ الذي انشغل بالفلسفة ـ على وشك ان ينقلب الى سعيد الجديد .. في هذه الفترة بالذات وحينما كنت أتأمل في
المسالك الثلاثة المشارة اليها في ختام سورة الفاتحة بـ
] صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [
رأيت تلك الحادثة الخيالية وهي حادثة أشبه ما يكون بالرؤيا. سجلتها في حينها في كتابي (اللوامع) على صورة سياحة خيالية وبما يشبه النظم. وقد حان الآن وقت ذكر معناها وشرحها، حيث انها تسلط الاضواء على الحقيقة المذكورة ...