تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

القسمُ الأوَّلُ: أن يكونَ التَّدبُّرُ لمعرفةِ المعنى المرادِ بالآيةِ، وقد يتعلَّقُ الأمرُ بآيةٍ تكونُ متشابهةً على المتدبِّرِ فيتطلَّبُ المعنى الصَّحيحَ لها، فتطلُّبُه هذا تدبُّرٌ، وهذا يعني أنَّ التَّدبُّرَ يتعلَّقُ بالمعنى، وفي الغالب يكونُ هذا في فهم المتشابهِ النِّسبيِّ الذي قد يخفى.

وأمثلةِ هذا القسمِ كثيرةٌ، منها ما يقعُ من بحثِ آيةٍ مشكلةٍ، ومنها نقاشاتُ المفسِّرينَ التي يظهرُ فيها ترجيحُهم لوجهٍ من وجوهِ التَّفسيرِ، وغيرَها مما يحتاجُ إلى اختيارٍ من أجلِ البيانِ، واللهُ أعلمُ.

القسم الثَّاني: أن تكونَ الآيةُ ظاهرةَ المعنى لا تحتاجُ إلى تفسيرٍ، أو تكونَ قد تبيَّن المعنى الصحيحُ لها للمتدبِّرِ ـ أي: بعد تفسيرِها ـ فيتدبَّرُ ما تحتويه من وجوه الاستنباطاتِ والفوائد، وهو تدبُّرٌ لاستخراجِ الحِكَمِ والأحكامِ والآدابِ وغيرِها مما يستنبطُه المستنبطُ، وهذا يعني أنَّ الاستنباطات نتيجةٌ للتَّدبُّرِ.

ومن أمثلةِ هذا القسم من التَّدبُّرِ، ما ذكره ابن القيِّمِ (ت: 751) في كتابه " زاد المهاجر " من تفسير قصَّةِ إبراهيم u في سورة الذَّارياتِ، قال:» فصل في:] أفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ [] النساء: 82، محمد: 24 [.

فان قلتَ: إنَّك قد أشرْتَ إلى مقامٍ عظيمٍ، فافتحْ لي بابَه واكشفْ لي حجابَه، وكيف تَدَبُّرُ القرانِ وتَفَهُّمُهُ والإشرافُ على عجائبه وكنوزه؟! وهذه تفاسيرُ الأئمَّةِ بأيدينا، فهل في البيانِ غيرُ ما ذكروه؟

قلتُ: سأضرب لك أمثالاً تَحْتَذِي عليها، وتجعلها إمَامًا لك في هذا المقصدِ.

قال اللهُ تعالى:] هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ إذْ دَخَلُوا عَلَيهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَومٌ مٌنْكَرُونَ فَرَاغَ إلَى أهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إلَيهِمْ قَالَ ألاَ تَأكُلُونَ فَأوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ فَأقْبَلَتِ امْرَأتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إنَّهُ هُو الحَكِيمُ العَلِيمٍ [] الذاريات: 24 ـ 30 [.

فعهدي بكَ إذا قرأتَ هذه الآية، وتطلَّعتَ إلى معناها، وتدبَّرتها، فإنَّما تَطْلُعُ منها على أنَّ الملائكةَ أَتَوا إبراهيمَ في صورةِ الأضيافِ يأكلونَ ويشربون، وبشَّرُوه بغلامٍ عليمٍ، وإنَّما امرأتُه عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة: أن اللهَ قال ذلك، ولم يتجاوزْ تَدَبُّرُكَ غير ذلك.

فاسمعِ الآن بعضَ ما في هذه الآيات من أنواعِ الأسرارِ، وكم قد تضمَّنت من الثَّنَاءِ على إبراهيم؟

وكيف جمعتِ الضِّيافةَ وحقوقَها؟ وما تضمَّنتْ منَ الرَّدِّ على أهلِ الباطلِ من الفلاسفةِ والمعطِّلةِ.

وكيف تضمَّنتْ علمًا عظيمًا من أعلام النُّبوَّةِ؟

وكيف تضمَّنتْ جميعَ صفاتِ الكمالِ التي رَدَّهَا إلى العلمِ والحكمةِ؟

وكيف أشارت إلى دليلِ إمكانِ المعادِ بألطفِ إشارة وأوضحِها، ثُمَّ أفصحتْ وقوعَه؟

وكيف تضمَّنتْ الإخبار عن عدلِ الرِّبِّ وانتقامِه من الأممِ المكذِّبةِ، وتضمَّنتْ ذِكْرَ الإسلامِ والإيمانِ والفرقِ بينهما، وتضمَّنتْ بقاءَ آياتِ الرَّبِّ الدَّالَّةِ على توحيدِه وصدقِ رُسُلِهِ وعلى اليوم الآخرِ، وتضمَّنتْ أنَّه لا ينتفعُ بهذا كلِه إلاَّ من في قلبِه خوفٌ من عذابِ الآخرةِ، وهم المؤمنون بها، وأمَّا من لا يخافُ الآخرةِ ولا يؤمنُ بها، فلا ينتفعُ بتلك الآياتِ؟ فاسمع الآن بعض تفاصيل هذه الجملةِ «().

ثُمَّ بدأ يسردُ فوائدَ واستنباطاتٍ من هذه الآيات، ولولا طولُها، لذكرتُها.

القسم الثَّالث: ما استأثر الله بعلمه، وهو ما يسمى بالمتشابِه الكليِّ، وهذا لا يمكن وقوع التدبر فيه؛ لأنَّه لا يعلمُه إلاَّ اللهُ، كما سبقَ بيانُه، ومن هنا فالتَّدبُّرُ لا يدخلُ في الغيبيَّاتِ التي استأثرَ اللهُ بعلمها؛ كزمنِ وقوعِ ما اخبرَ اللهُ بوقوعِه أو كيفيَّاتِ هذه المغيَّباتِ.

وهذا القسمُ ليسَ له مثالٌ؛ لأنَّه لا يمكنُ أن يقعَ فيه تدبُّرٌ، واللهُ أعلمُ.

المعاني المقاربةِ للتَّدبرِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير