تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ وخطابه لعموم الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وأوطانهم، كالأمر بعبادة الله تعالى في قوله: (يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) البقرة: 21، وكالأمر بالأكل من الحلال الطيب، في قوله: (يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً) البقرة: 168، وكالأمر بالتقوى في قوله: (يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) النساء:1، فهذه النصوص تخاطب الناس عامة، فهم مأمورون بعبادة خالقهم الذي خلقهم، ومأمورون بالأكل مما رزقهم من الحلال الطيب ومأمورون بالخوف منه وتقواه·

ـ وأما خطابه للمؤمنين، فهو عام أيضاً لكل من تحقّق فيه وصف الإيمان، في أي مكان وزمان من العالم، كخطابهم بفرض القصاص في قوله: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) البقرة: 178، وخطابهم بفرض الصيام عليهم في قوله: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) البقرة: 183، وكخطابهم بالدخول في السّلم في قوله: (يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافة) البقرة: 208، وكخطابهم بترك الرّبا، ونهيهم عن أكل أموال الناس بالباطل، وأمرهم بالوفاء بالعقود، في قوله: (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مابقي من الربا) البقرة: 278، وقوله: (يأيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) النساء: 29، وقوله: (يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) المائدة:1، فهذه النصوص وغيرها كثير في القرآن مما ورد بهذه الصّيغة والأسلوب الخطابي العالمي الذي يشمل الإنسان بعامة والناس والمؤمنين في أيّ زمان ومكان من العالم عامة· والناظر في الخطاب القرآني يجده متنوّع الدلالة والغاية، كالخطاب الدعوي، والتّرغيبي، والتّرهيبي، والبرهاني، والعلمي والتّاريخي والتّشريعي، وكلها تخاطب الناس بعامة مطلقة من قيد الزمان والمكان·

ويلاحظ أن الخطاب الدّيني الإلهي مرّ بدورين:

ـ دور الخطاب الاصطفائي الحصري، وهو خطاب يتوجّه في مضمونه إلى دوائر بشرية معينة، كما جاء في قوله: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران: 33، فالآية تشير إلى الخطاب الاصطفائي الحصري الذي يبتدىء بآدم، ثم بقوم نوح، ثم بخلائف قوم نوح، ثم بإبراهيم، وإلى يعقوب والأسباط ثم آل عمران من ذرية إبراهيم، وإلى يحيى بن زكريا ثم تحوّل الخطاب إلى ذرية إسماعيل بن إبراهيم انتهاء بمحمد خاتم النبيين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام· فكل الرسل والرسالات المذكورة في القرآن إنما جاءت بخطاب إلهي حصري اصطفائي ينتهي ببعثة خاتم الأنبياء·

ـ دور الخطاب العالمي، ويبدأ ببعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قيام السّاعة، ومن ثم فإن ختام النّبوة ليس مجرد توقيت زماني فحسب، بل ختامه يقترن بحدث كبير، وهو انتهاء الخطاب الإلهي الحصري الاصطفائي لينطلق الخطاب العالمي من الأرض المحرّمة وليس من الأرض المقدَّسة، ويبدأ بالتخصيص العربي نهاية للاصطفاء وافتتاحاً للعالمية في الوقت ذاته (13) · وفي هذا الشأن يقول الغزالي: >فخطاب القرآن عالمي، ورسالته خاتمة، وله بعد في الزمان الماضي والحاضروالمستقبل، وله بعد في المكان بحيث يشتمل العالم كله< (14)، ومن هنا صيغ التّشريع صياغة عامّة تستوعب قضايا الإنسان وحاجاته المتجدّدة الحاضرة منها والمستقبلية وجاءت معظم النصوص عامة في اللفظ والمعنى، حتى اشتهرت تلك القاعدة الأصولية: >العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب< (15)، ومفاده أن سبب النزول لاتقيّد معاني النصوص ودلالاتها بمن نزل فيهم، بل تتعدّى لتشمل غيرهم ممن لم ينزل فيهم الخطاب· كما جاءت نصوص القرآن في معظمها ظنّية الدلالة تحتمل أكثر من معنى، ليتّسع تفسيرها بما يتلاءم والمقصد من عالمية الخطاب، فلا تعترضها الظواهرالجغرافية، ولا الأحداث التاريخية، ولا التطوّر الحضاري للبشرية، وهذا مايشهد له الفقه الإسلامي، فإنه ذو نزعة عالمية ـ وإن كتب بلغة العرب وفي أرضهم ـ إلا أن مضامينه عالمية؛ لكون المصدر الأول لهذا الفقه عالمي النزعة، ألا وهو القرآن، وقد حكم هذا الفقه شعوبا شتى في بقاع الأرض، فلم يعجز عن الوفاء بحاجاتها (16) · فالخطاب القرآني بعالميته استطاع استيعاب الحضارات القديمة، بما تحويه من ثقافات متنوّعة وأديان متعدّدة وأعراف مختلفة، ولم يكن ذلك مانعاً ولاحائلاً أمام تلك الشعوب من الاندماج مع المسلمين والتعايش

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير