تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الإسلامي، فإنه ذو نزعة عالمية ـ وإن كتب بلغة العرب وفي أرضهم ـ إلا أن مضامينه عالمية؛ لكون المصدر الأول لهذا الفقه عالمي النزعة، ألا وهو القرآن، وقد حكم هذا الفقه شعوبا شتى في بقاع الأرض، فلم يعجز عن الوفاء بحاجاتها (16) · فالخطاب القرآني بعالميته استطاع استيعاب الحضارات القديمة، بما تحويه من ثقافات متنوّعة وأديان متعدّدة وأعراف مختلفة، ولم يكن ذلك مانعاً ولاحائلاً أمام تلك الشعوب من الاندماج مع المسلمين والتعايش معهم مع الحفاظ على خصوصياتهم الدينية والثقافية·

وما زال الخطاب القرآني إلى اليوم قادراً على إعادة ذلك الدور المفقود؛ لأن الله الذي كتب له العالمية حفظه من التّبديل والتّحريف الذي أصاب الكتب السّابقة، >وإذا كان أقصى ماوصلت إليه الحضارة المعاصرة هو إقرار التعدّد، فإن عالمية الخطاب الإسلامي عملت وتعمل على استيعاب التعدّد بعد الإقرار به، ودفعه باتجاه ـ العالمية ـ ليتحوّل إلى عامل دفع في إطار تنوّع بشري إيجابي تهيمن عليه أنوار الهدى ودين الحق< (17) ·

رابعاً: عالمية المقصد والغاية

وإذا كان الخطاب القرآني جاء عالمياً في لفظه ودلالته، فإنه أيضاً جاء عالمياً في مقصده وغايته، حيث جاءت نصوصه دالة على أن العالم كان ولا يزال محلّ العناية الإلهية، والرّعاية الربّانية، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها· فالصّلاح العالمي ضرورة حتمية ونتيجة لازمة من خلق الكون والإنسان والحياة؛ ذلك أن الهدف الأسمى من خلق العالم بجميع مكوّناته، إيجاده على هيئة صالحة وأوضاع سليمة، تمكّن الإنسان من عمارته وإقامة حضارته والتّمكين فيه· وقد دلّت على ذلك شواهد كثيرة، كقوله تعالى في أوّل سورة في المصحف: (الحمد لله رب العالمين) الفاتحة:1، ومعنى ربوبيته للعالمين أن: >الله سبحانه لم يخلق الكون هملاً إنما يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربّيه، وكلّ العوالم والخلائق تحفظ وتتعهّد برعاية الله رب العالمين< (18)، وقوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها) البقرة:30، دليل على عناية الله تعالى بالعالم الأرضي، ولذا جعل فيه خليفة يخلفه سبحانه وتعالى في تدبير شؤون الكون، فدلّ ذلك على أن مراد الله صلاح هذا العالم واستقامة أحواله· كما دل استفهام الملائكة المشوب بالتعجّب أنهم علموا أنّ مراد الله تعالى من خلق الأرض وإيجادها هو صلاحها وانتظام أحوالها، ولذلك تعجّبوا من خلق من يقيم فيها الفساد، فكان جواب الله تعالى أنه أعلم بما في خليفته من صفات الصّلاح والفساد، وأن الصّلاح غالب على الفساد فيه، ومن ثم يتحقّق المقصد من الخلق وهو عمارة الأرض وصلاحها (19) · كما دلّت نصوص كثيرة على أن مراد الله من خلق العالم صلاحه، كقوله: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) الأعراف:85، فهي دليل على أن الله لايحب الفساد في الأرض بعد أن أصلح الله خلقها، وكقوله: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لايحب الفساد) البقرة: 205، ففيها إشارة صريحة إلى أن الله قصد من خلق العالم صلاح حرثه ونسله وكل موجوداته؛ لينتفع بها الإنسان وينعم بها أهل الأرض جميعاً (20) · وهكذا يظهر أن المقصد الأعلى والأسمى من خلق العالم وإيجاده هو عمارة الأرض بالخير والصلاح وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وأنّ ذلك مرهون باستقامة الإنسان وعدله وصلاح عقله (21) ·

خامسا: عالمية الظهور والتّمكين

ومما يدل على البعد العالمي في الخطاب القرآني، النصوص المبشّرة بظهور هذا الدّين والتّمكين لأهله في العالم، وأن ذلك آت لا محالة حينما يأذن الله وتتهيأ أسبابه، وظهور الدّين، معناه علوّه على جميع الأديان السّابقة والتمكين له في الأرض (22)، وقد نصّ عليه القرآن في ثلاث آيات، في سورة التوبة، والفتح، والصّفّ، وقد ربط الله تعالى هذا الظهور والتّمكين عقب الإشارة إلى رفض أهل الكتاب والمشركين الاعتراف بالدّين العالمي الجديد والدّخول فيه، ففي سورة التوبة حدّد الله صفة المشركين في الآية (28) ثم صفة المرتدّين من أهل الكتاب في الآية (29)، ثم أشار إلى انحرافات اليهود والنصارى في الآيتين (30، 31)، ثم أكّد على ظهور الدين مطلقاً على المشركين والكتابيين بعد ذلك· أما في سورة الصف فقد جاءت آية الظهور للدين بعد ذكر خطاب موسى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير