تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يا من آمنوا بهذا .. أنفقوا {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}. أي: أنفقوا من هذا الذي لا تملكونه بل أنتم متصرفين فيه، مثلما يتصرف الوكيل في مال المالك الأصلي، والوصي في مال الذي هو وصي عليه.

أنفقوا من أموال لا تملكونها على وجه الحقيقة، بل أنتم مستخلفين فيها، وعمَّا قريب تتركونها أو تترككم.

أنفقوا في سبيل الله، فلن يبقى لكم شيء {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 7]. ولن يستوي من أنفق في وقت الضعف والقلة، مع من أنفق في وقت العزة والنصرة، ولكن كلاهما له الجنة.

وإنها لدعوة فياضة بالمعاني، إذ تسمع قول الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] .. فإنها دعوة تفيض برحمة الله.

رحمة الله إذ يسمِّي الذي أنفق في سبيله كأنما أقرضه .. أَقْرَضَ الله!! .. الله الذي يملك السموات والأرض! وتسبح له السموات والأرض وما فيهن ومن فيهن! الله الذي له ميراث السموات والأرض! الله الذي يملك على الحقيقة يحثُّ بصيغة الطلب والاستفهام عبيدَه أن ينفقوا في سبيله، فيقول لهم: أقرضوني قرضًا حسنًا، وأنا أضاعفه لكم!!

رحمة الله إذ يعلم من نفوس عِباده بخلاً وشحًّا، فيطلب منهم قرضًا، ويعدهم بأنه سيعطيه لهم أضعافًا مضاعفة، لا يطلب منهم عطاء أو منحة لا تُرَدُّ، أو يطلبها حتى على سبيل الشكر وتوفية شيء من نِعمه السابغة، بل لا يطلبها حقًّا، وهو صاحبها وواهبها ومالكها على الحقيقة.

رحمة الله إذ يعطي القرض المضاعف، ثم يعطي بعده أجرًا كريمًا!!

قال المفسرون: إن الأجر الكريم هو الجنة، أي أن سداد القرض بالمضاعفة هو سداد في الدنيا قبل الآخرة. وهذا وعد من يملك ويقدر.

ألا ما أحنّها من دعوة؟!

دعوة تثير الخجل وتقف بالنفس أمام حقيقتها المخزية .. حقيقة بخلها حتى بما لا تملك، وبخلها بما سيذهب من يدها، ثم بخلها بكل هذا على واهب النعم وصاحب الفضل، على الذي يملك السموات والأرض، على الذي إليه ترجع الأمور.

{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 7 - 11].

...

ثم ينتقل سياق السورة إلى المصير .. إلى اليوم الآخر، حيث لم يبق شيء، ولم يعد أحد يملك شيئًا.

وإن اللافت للنظر في هذا السياق، أنه تصوير لحال المؤمنين والمنافقين، ولا يأتي على ذكر الكافرين، فهي حكاية ومقارنة بين مؤمن صادق وبين منافق ادَّعى الإيمان دعوى ظاهرية، ولم يكن الإيمان حقيقة نفسه. والتتابع في السياق يفيد بأن هذا هو حال المؤمنين المتصدقين مقارنة بحال المنافقين، الذين فتنوا أنفسهم فأسرتهم اللذات والشهوات الشخصية، وأجَّلوا التوبة وارتابوا في الله وفي وعده وغرتهم الحياة الدنيا.

والسياق مليء بألفاظ وإيحاءات ودلالات العطاء والإنفاق.

فالمؤمنون {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]، والمنافقون يطلبون العطاء من المؤمنين {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13].

والإيحاء في لفظ {نَقْتَبِسْ} يذهب بالخيال إلى مشهد الفقير الذي يطلب الصدقة، فهو يطلب شيئًا بسيطًا صغيرًا، لن يضر بصاحب المال إذا أنفقه .. لن يؤثر في حجم المال، أو صاحب المال الذي يرفض أن "يقتبس" أحدٌ من ماله، ويمنع هو أن يخرج الشيء اليسير من عنده.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير