إنه يمنع ما ينفع المحتاج ولا يضره هو.
أليس مشهدًا مشابهًا، وجزاء من جنس العمل؟! يُمنعون يوم القيامة أن يقتبسوا نورًا يمشون به، ولن يضر نور اقتبسوه أصحاب الإيمان.
بل يقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13]، فيكون ذلك منعًا كما سبق لهم أن منعوا، وطردًا كما سبق لهم أن طردوا، ثم يحال بينهم وبين النور.
ويومئذٍ لا ينفعهم المال، فلا تؤخذ منهم فدية. وهنا يُذكر لأول مرة {الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 13]، يأتي ذكرهم ليقال لهم: لن تؤخذ منكم فدية، تمامًا مثلما لم تؤخذ من الذين كفروا، ومأواكم النار التي هي مأوى الذين كفروا .. بئس المصير.
وحينما لا يُقال في هذا الموقف ولا يُذَكَّرون بشيء من وسائل النجاة إلا الفدية، فإنه يعطي إشارة إلى أن المُخاطبين بهذا الكلام تصوروا أو فكروا أو تمنوا أن الفدية ودفع الأموال يمكن أن ينجيهم وينقذهم من هذا العذاب، وهذه طريقة تفكير البخلاء والممسكين إذا أحاطت بهم المصائب، فالبعض يحسب أن كل مشكلة يمكن أن تحلها الأموال، وكل مصيبة يمكن النجاة منها بدفع الأموال.
إن ذكر الفدية هنا فقط دليل على أنهم قوم بخلاء، سُئلوا المال من قبل فمنعوه، فاليوم لا يُسأَلونه ولا ينفعهم.
ثم يتوجه الخطاب القرآني للمؤمنين، يعاتبهم: ألم يأت أوان أن تخشع قلوبهم لذكر الله وللحق، وعاتب الله المؤمنين بهذه الآية بعد أربع سنوات فقط من إسلامهم، كما في صحيح مسلم، ثم يحذرهم من أن تقسو قلوبهم، مثلما قست قلوب أهل الكتاب من قبل حين طال إهمالهم لذكر الله، ففسقوا.
ثم يطمئن الله الذين آمنوا فيذكرهم بأن الله القادر على إحياء الأرض بعد موتها، وتحويلها إلى المروج والزروع والثمار من بعد ما كانت أرضًا قاحلة وميتة، قادر على أن يحيي القلوب التي قست، فيجعلها حية خاشعة.
ثم يعود السياق القرآني ليُذَكِّر المؤمنين بأن التصدق والإنفاق في سبيل الله هو بمنزلة إقراض لله U، وهو القرض الذي يَعِدُ الله أن يرده أضعافًا مضاعفة، ثم يعطي فوق الأضعاف المضاعفة أجر كريم.
إنه نفس المعنى، بل تكاد تكون نفس الألفاظ الموجودة في الآية الحادية عشرة {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]، وهي الآية التي سبقت وصف الله تعالى لحال المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة .. إنها تتكرر الآن، ولكن في سياق آخر: بعدما حذر الله المؤمنين من إهمال كتابهم ومن قسوة قلوبهم.
وكأن طريق الخشوع، وتجنب قسوة القلب، يكون بالإنفاق في سبيل الله .. كأن بداية حياة القلب التي هي مثل حياة الأرض تكون بالتصدق، بإقراض الله تبارك وتعالى.
ومثلما أنت تنفق في الأرض البذور، فتعطي الأرض أضعافًا مضاعفة، كذلك إذا أقرضت الله يعيده إليك الله أضعافًا مضاعفة. ومثلما كان عليك أن تنفق أولاً في الأرض ثم تنتظر العائد الكثير، يكون عليك أن تنفق في سبيل الله تعالى ثم تنتظر أن يحيي الله قلبك كما يحيي الأرض بعد موتها، وأن يضاعف لك أموالك أضعافًا كثيرة.
وإنها دعوة لمن قسى قلبه أن ينفق، فإن الله هو من ذكر الإنفاق بعدما حذر من قسوة القلب الذي طال عليه الأمد.
ويُخْتَتَم هذا المقطع بآية تفرق بين المؤمنين وغيرهم، فكأنها تصف حال الناس إزاء كلام الله؛ فمنهم من صدّق وعد الله وكلام الله، ومنهم من كفر بالله وكذب بآياته فلم يصدقها، ولم يعمل بها، يَذْكُر الله تعالى أن المؤمنين هم الذين يصدقون الله ورسوله، هم الصِّدِّيقون، وهم الشهداء، وأولئك لهم أجرهم ونورهم، وأما المكذِّبون فأولئك أصحاب الجحيم.
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
¥