تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أعرف شخصًا يدير موقعًا للمترجمين وقد أحاط نفسه بعدد كبير منهم ومن الأكاديميين وأساتذة الجامعات، وفي كل يوم يوسعهم إهانة فيتذللون إليه كتلامذة يقفون انبهارًا ورعبًا أمام ناظر المدرسة.

في إحدى المرات نشر صاحبنا استهجانًا منه يسخر فيه من الذين يبعثون إليه رسائل، وقال بأنه لا يرد على من لا يحمل رسالة دكتوراة، بل إنه طالبهم بتدمير مواقع مخالفيه ومنتقديه، وكلما ألهب ظهر كاتب مرموق، تمسح الأخير فيه كما تتمسح قطة صغيرة في قدمي صاحبتها!

يقول المثقفون بأننا سوس الشبكة العنكبوتية، لكن الحقيقة أننا ملوك الساحة لأنهم تركوها لنا، وولوّا الأدبار، فتَحَكمْنا في القاصي والداني، حتى اللغة العربية جعلناهًا مِسْخًا، وشوّهنا حروفَها، وتساقطت قواعدُها بين أناملنا كما يتساقط بناءٌ رمليّ أقامه طفلٌ على شاطيء البحر.

نعم، نحن نسرق الموضوعات، لكن الكُتّاب العرب لا يدافعون عن شرف القلم، ولا يطاردون لصوص الملكية الفكرية، ويتساهلون مع أعراضهم الثقافية كما يتساهل الزعماء العرب في مؤتمرات القمة مع كل الاعتداءات الإسرائيلية، ويطاردون لسانَ المواطن العربي حتى لو حَرَّكَه داخل حلقه!

أحيانا يتملكني شعور بالدونية، وأغلق باب غرفتي، وأبكي ساعات طويلة فقد تركوني وحيدًا، وأمتدحوا جهلي، وأثنوا على أميّتي، ولم يصححوا لي أخطائي، وغضّوا الطرْفَ عن سرقاتي لأفكارهم، ورغم آلاف المشاركات الهزيلة التي تنفخ في عقلي فتورّمه، إلا أنني يتيمٌ أمام هذا الجهاز العجيب.

لقد ظننتُ أنني أصبحت واحدًا من الصفوة، فإذا بي أصنع مجتمعًا وهميًا من أصدقاء غير حقيقيين يدخلون بأسماء مستعارة، ويتبادلون كلمات تافهة، ويقضون ساعات الليل والنهار متنقلين بين الفيس بوك والمنتديات والمواقع وتحميل برامج لا تسمن ولا تغني من جوع!

لقد سجنت نفسي داخل الشاشة الصغيرة، وهجرت العالمَ الحقيقي، ولم تَعُدْ لي أي فائدة في تطور المجتمع، ولو دخلت امتحانات من جديد فربما لا أستطيع أن أخُطّ حرفا واحدا مما أفرغته على ورق الإجابة منذ عدة سنوات!

إنني أشير بسبّابة الإتهام إلى كل المثقفين والمفكرين والإعلاميين والكُتّاب والعلماء الذين تركوني وحيدا أتجرع بجهلي نتائج غطرسة كانت قد جعلتني على يقين من أن البقاء للعقل الأجوف، وأن قياس المعرفة مرهون بعدد المشاركات.

إنني وملايين غيري من الشباب العرب محبوسون داخل قمقم ونظن أننا نجوب العالم كله في طرفة عين، وقد آن الوقت لأن يحررنا من صنعوا لنا الإنترنت، وتركونا يتامىَ!

لقد صنعنا عالَمَ الكراهية، وضربنا القيم الروحية والفكرية في مقتل، ونسجنا حروبا عنكبوتية هشّة، وتصارع أتباعُ الإسلام والمسيحية على أرضنا الخاوية على عروشها فكان الجهلُ سيّد الفرسان، ونقلنا معاركنا إلى البيوت والمدارس والشوارع والعلاقات الإنسانية والاجتماعية لتخريب وطن تركت نخبتُه الأميّين يتحكمون في المسار الفكري والثقافي على النت.

قام المتشددون المتمسحون بأهداب الدين باستغلالنا، وفتحوا لنا صنابير الفتاوىَ الفجّة لتنفجر ملوّثة الجميع كما تلوّث بريتش بتروليوم خليج المكسيك، وأصبحنا طرفا في معارك بدأت منذ ألف وأربعمئة عام، ودافعنا عن أنظمة فاسدة، وتجوفت أدمغتُنا ليضع كل مِنّا مكان التجويف اسمَ فرقته الناجية من النار.

أشعر في أحايين كثيرة بقرف شديد عندما أجوس خلال النت، وألمس عن قرب عالم البغضاء الذي تم تجنيد ملايين من شباب الغد ليعيدوا صياغة المستقبل على أسس طائفية ودينية ومذهبية، رغم أن الملايين من الشباب الإنترنتيين لا يستطيعون تحريك شعرة في رأس أي طاغية يحكم بلدًا عربيًا، وأكثرنا خُشُبٌ مُسَنَّدةتجمعهم شاشة صغيرة ويفرّقهم مُخبر جِلْفٌ، يتظاهرون بالشجاعة في غرفهم، ويتظاهرون بالعشرات فقط في الشوارع والميادين.

إذا كتب مسيحي متطرف وأحمق مقالا يطعن في الإسلام تداعت له جماهير النتّ كأنهم على وشك التخلص نهائيا من خاتمة الرسالات السماوية، وإذا نشر مسلم غبي ومتعصب مقالا يُهين المسيحية وكتبَها المقدسة وتعاليمها وأتباعها التفتّ حوله جماهير الأونلاين تظن أنها ستُنهي إلى غير رجعة أكبر أديان الأرض، وتظل المعركة بين المسجد والكنيسة مبارزة حمقاء إنْ سقط فيها بيتٌ للهِ انهار البيتُ الآخر على رؤوس المؤمنين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير